للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأعمال البرية، لكانت هى أهون عليه من أن يخلقها، أو أن يعمرها بمن عمرها، أو يبثّ ما بثّ لها.

ومن أمور الدنيا ما جعله الله على الأسوة (١)، ومنه ما جعله على التفضيل، فأحقّ أمورها أن يرضاه من أعطيه، ويصبر له من نزل به، ما كان أمر أسوة فى محبة أو مكروه، وهذا الموت مما آسى الله فيه بين الخلائق، فقضى أن تذوقه كلّ نفس، ويمنى به كل حى، فالمتقدّم فيه على أسوة ممن قبله وممن بعده، وأنه سيلحقه الباقى كما سبقه الماضى، ومكاره الدنيا حالّة (٢) على من عمر الدنيا، فإن الله خلقها للبلاء حين خلقها، وخلق أهلها على الابتلاء، فجعل لهم منها أطباقا (٣) يركبونها، وحالات ينتقلون فيها من محنة إلى مكروه، ونقص (٤) وعافية، فكلّ ذى سلامة وإن طالت، وذى عافية، وإن تتابعت، لابدّ أن تناله المكاره، وتتصرّف به الحالات، ويبلى بالخير والشر فتنة، على ذلك وضعت، فيرجو عبد أن يعمرها بما لم يعمرها أحد قبله، ولا يعمرها به أحد بعده؟ إنه من نفسه فى قريب الدنيا وظاهرها- وينسى عواقبها التى بقيت وعبرها التى مضت- كان جاهلا مغرورا، ومن جعل قلبه فى الفكر والتذكر كان معافى معصوما، وكلّ كثير الدنيا قليل، وكل حالاتها غرور، غير أن الله برحمته جعل ما يتقرّب به العباد إليه زاكيا عظيما عنده، فاصبر لأمره، وارض يقضائه، وارج ما وعد أهل المعرفة بحقه من النعيم المقيم، والخلود الدائم، فيما لم تعلمه نفس، ولم تره عين، ولم يخطر على قلب، ولم تبلغه أمنيّة، فضلا مذخورا لأهل طاعته حين يحلّون عنده، ويتلذذون فيه بالشهوات، ويتجددون فيه على طول البقاء؛ قد فنى الموت وبقوا بعده كما كان يفنيهم ويبقى بعدهم، وجميع العباد أسوة لأخيك فى الموت الذى أتى عليه، ونظير ذلك فى أشباه المرزئة التى دخلت عليك، فاذكر ذلك عند


(١) أى القدوة.
(٢) فى الأصل «حلة» وهو تحريف.
(٣) جمع طبق بالتحريك: وهو الحال.
(٤) فى الأصل «ونقض».

<<  <  ج: ص:  >  >>