للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كسراب بقيعة (١) يحسبه الظّمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا، ولو راجعت عزوب (٢) عقلك، أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك موّادّ الشّبهة، لكن حصت (٣) عن سنّة الحقيقة، ونكصت على عقبيك، لما ملك طباعك من دواعى الحيرة، فكنت فى الإصغاء لهتافه، والتجرّد إلى وروده، كالّذى استهوته الشّياطين فى الأرض حيران، ولعمرك يا محمد: لقد ورد وعدك لنا، ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفى بالبرق نهجا إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام، ولعمرك لئن اشتدّ فى البغى شأوك (٤)، ومتّعت بصبابة من الأمل، ليكونن أمرك عليك غمّة، ولنأتينّك بجنود لا قبل لك بها، ولنخرجنّك منها ذليلا وأنت من الصاغرين، ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بإعلامنا ما نعمل فى شاكلته (٥)، بلغنا بالسياط النّياط، وغمدنا السيوف وهى كالّة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظّلمان (٦) والحيّات والبوم، وقد ناديناك من كثب (٧)، وأسمعناك إن كنت حيا، فإن تجب تفلح، وإن تأب إلا غيّا نخزك به، وعمّا قليل لتصبحنّ نادمين».

(تاريخ الطبرى ١١: ١٥٠)


(١) السراب. ما تراه نصف النهار، كأنه ماء، والقيعة: جمع قاع: وهو أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام.
(٢) العزوب: الغيبة والذهاب، أى عقلك الذاهب.
(٣) حاص عنه يحيص: عدل وحاد، والسنة: الطريقة، ونكص على عقبيه: رجع عما كان عليه من خير، خاص بالرجوع عن الخير، أو فى الشر نادر.
(٤) الشأو: السبق والغاية، والصبابة: البقية.
(٥) الشاكلة: الطريقة والمذهب، والنياط: عرق متصل بالقلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه.
(٦) الظلمان: جمع ظليم: وهو ذكر النعام.
(٧) أى من قرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>