للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«ورد كتاب أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- يسألنى عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء (١)، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر (٢)، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر (٣)، يخطّ وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الرّوحات، تجرى فيه الزيادة والنقصان كجرى الشمس والقمر، له أوان يدرّ حلابه (٤)، ويكثر فيه ذبابه، تمدّه عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخمّ عجّاجه (٥)، وتعظّمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا فى صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن فى المخايل ورق الأصائل (٦)، فإذا تكامل فى زيادته نكص على عقبيه كأوّل ما بدأ فى جريته، وطما فى درّته (٧)، فعند ذلك تخرج أهل ملّة محقورة، وذمّة مخفورة (٨)، يحرثون الأرض، ويبذرون بها الحبّ، يرجون بذلك النّماء من الربّ، لغيرهم ما سعوا من كدّهم، فناله منهم بغير جدّهم (٩) فإذا أحدق (١٠) الزرع وأشرق، سقاه النّدى، وغذاه من تحته الثّرى،


(١) غبراء: وصف من الغبرة بالضم، وهى لون الغبار، مثل صحارى مصر بقرية غبراء، وواديها الخصيب بشجرة خضراء.
(٢) المراد عشرة أيام (وإذا حذف المعدود جاز تذكير العدد وتأنيثه كحديث:
وأتبعه ستا من شوال). والمعنى أن عرضها أقل من طولها.
(٣) الأعفر: الرمل الأحمر، والأعفر أيضا: الأبيض وليس بالشديد البياض.
(٤) الدر بالفتح: اللبن، وقد در الضرع كنصر وضرب، والحلاب: استخراج ما فى الضرع من اللبن كالحلب (واستعمل هنا لما يحلب) والمعنى: له وقت يغزر فيه ماؤه ويفيض.
(٥) اصلخم: اشتد، بعير مصلخم: أى جسيم شديد ماض، ونهر عجاج: أى كثير الماء تسمع لمائه المتدفق عجيجا أى صوتا.
(٦) المخايل جمع مخيلة كمعيشة، خال الشئ مخيلة: ظنه، والأصائل جمع أصيل وهو العشى. والورق: جمع ورقاء وهى الحمامه فى لونها بياض إلى سواد،
(٧) نكص: رجع، وطما الماء يطمو ويطمى: علا، والدرة بالكسر: اسم من الدر بالفتح وهو اللبن كما تقدم، والمعنى فى زيادته وفيضه.
(٨) خفر به كضرب: نقض عهده وغدره كأخفره، ومعنى قوله «أهل ملة محقورة وذمة مخفورة» أن الرومان كانوا يحقرونهم ويمتهنونهم ويستذلونهم ولا يرعون لهم عهدا ولا ذمة، وكذا قوله «لغيرهم ما سعوا من كدهم» أى إنهم كانوا يكدون فى حرث الأرض وزرعها ثم يستحوذ الرومان على محصولها، وقد ذكر المؤرخون أن أهل مصر فى آخر الحكم الرومانى كانوا بمثابة آلات لإنبات القمح، وأن مصر كانت مزرعة تصدره إلى رومة.
(٩) الضمير فيه يعود على «لغيرهم» وأعاد الضمير مجموعا مراعاة بمعنى غير، فهى مفردة لفظا متعددة معنى ولعل الأصل «بغير جده» ثم حرف، وهو الأظهر.
(١٠) أحدق: أى استدار، وأشرق: تفتح نوره.

<<  <  ج: ص:  >  >>