الإمام علىّ كرم الله وجهه، إلا ما اقتضاه المقام: مما كان حلقة مكملة لسلسلة مكاتبات، أو رسالة مختصرة عثرت على تتمتها فى مصدر آخر، أو ما شا كل ذلك.
وقد أخرجت هذه الجمهرة على غرار سابقتها، ونهجت فيها منهجها، فدأبت على التوفيق بين الروايات المختلفة للرسالة الواحدة، وصنعت منها صورة كاملة تؤلف بين أشتاتها، وعنيت بضبط المشكل من ألفاظها، وتصحيح المحرف، وتحقيق المشوّه منها، ورده إلى أصله، وشفعتها بنبذة تاريخية توضح المقام الذى كتبت فيه، وذيلتها بشرح مسهب يجلى للقارئ فحواها. ولست أغلو إن قلت إن ذلك الشرح بما حواه من فوائد لغوية، وفرائد أدبية، وطرائف تاريخية، حرىّ أن بعد كتابا قائما بذاته.
وإخالنى بإصدار هاتين الجمهرتين قد عبّدت طريق النثر القديم: الخطابى والكتابى:
للمتأدبين، ووطأت لهم مهاده، ويسرت لمؤرخى الأدب العربى أن يتصفحوا خطب كل عصر ورسائله مجتمعة الشمل، قريبة المأخذ، سائغة التناول، ووفّرت عليهم ما يضطرهم إليه البحث من بذل مجهود شاق، وإضاعة وقت طويل، فى التنقيب عنها، وما تتطلبه من التحقيق والتعليق.
كما أرانى قد حببت إلى شبابنا المتعلمين أن يجتنوا من ثمر الأدب العربى الشهى، وينهلوا من مناهله العذبة، ويلفوا فيه من فصاحة اللسان، ورصانة البيان، ما يؤمنون معه بثراء لغتهم، وعلوّ كعبها، وسمو مكانتها؛ بين لغات الأمم، أجل لقد كان من أكبر البواعث التى حدت بى إلى تأليف تينكم الجمهرتين، ما رأيته فى طلابنا المتأدبين من عزوف عن كتب الأدب العربىّ القديم وصدوف عنها، لأنها عطل من الضبط، خلو من التعليق والشرح، فضلا عما أفعمت به من التحريف للشائن، والتشويه الشنيع؛ فهم إذا ما تاقت نفوسهم إلى مطالعتها لم يعتموا أن يمسهم الضيق والضجر، ويستحوذ عليهم السأم والملل، لوعورة مسلكها، وصعوبة مرتقاها، فسرعان ما يطوونها، ويلقون بها دون أن يفيدوا منها ما ينشدون.