للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فانظر يا أمير المؤمنين إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر المبتلى العاشق، واعلم أنها تزيل الثّاوى (١) الساكن، وتفجع المترف فيها الآمن، ولا ترجع ما تولّى وأدبر، ولا بدّ ما هو آت منها ينتظر، ولا يتبع ما صفا منها إلا كدر، فاحذرها فإن أمانيّها كاذبة، وآمالها باطلة، وعيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة فادحة (٢)، وإما منيّة قاضية، فلقد كدّرت المعيشة لمن عقل، فهو من نعيمها على خطر، ومن بليّتها على حذر، ومن المنية على يقين.

فلو كان الخالق تبارك وتعالى لم يخبر عنها بخبر، ولم يضرب لها مثلا، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدنيا قد أيقظت النائم، ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء عن الله عزّ وجل منها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عنده قدر ولا وزن من الصّغر، فلهى عنده أصغر من حصاة فى الحصى، ومن مقدار نواة فى النّوى، ما خلق الله عزّ وجل فيما بلغنا أبغض إلى الله تعالى منها، ما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها- مع مالا ينقصه الله شيئا مما عنده كما وعده- إلا أنه علم أن الله عزّ وجلّ أبغض شيئا فأبغضه، وصغّر شيئا فصغّره، ولو قبلها كان الدليل على محبته قبوله إياها، ولكنه كره أن يخالف أمره، أو يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه.

وكان فى آخر هذه الرسالة:

ولا تأمن أن يكون هذا الكلام حجّة عليك، نفعنى الله وإياك بالموعظة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (سيرة عمر لابن الجوزى ص ١٢١)


(١) الثاوى: المقيم.
(٢) فدحه: أثقله.

<<  <  ج: ص:  >  >>