للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما ولى أبو جعفر الخلافة أقرّ عيسى بن موسى على ما كان أبو العباس ولّاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرما مجلّا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدى ابنه عن يساره، ثم عزم على تقديم المهدى عليه فى الخلافة، وكلّمه فى ذلك برفيق من الكلام فأبى، فتغيّر عليه وباعده بعض المباعدة. وقصد إليه بالأذى حتى أجابه إلى ما سأله (١)، وكان ذلك سنة ١٤٧ هـ.

وروى الطبرى أن أبا جعفر كتب إليه فى ذلك:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله: عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى ابن موسى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله ذى المنّ القديم، والفضل العظيم، والبلاء (٢) الحسن الجميل، الذى ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره، فلا يبلغ مخلوق كنه حقّه، ولا ينال فى عظمته كنه ذكره، يدبّر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته، لا قاضى فيها


(١) من ذلك ما قيل من أن أبا جعفر سقاه بعض ما يتلفه، فمرض مدة، وبلغت العلة منه كل مبلغ حتى تمعط شعره ثم أفاق من علته، وقيل إنه وضع الجند فصاروا يشتمونه إذا رأوه وينالون منه، فشكا ذلك إلى المنصور فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخى، فإنه جلدة بين عينى ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم، فكانوا يكفون ثم يعودون، فمكث بذلك زمانا، فلما كتب أبو جعفر إليه الكتاب الآتى، وأتاه جوابه بالإباء. عاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون، فكانوا يأتون باب عيسى فيمنعون من يدخل إليه، فإذا ركب مشوا خلفه، وقالوا: أنت البقرة التى قال الله فيها «فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» فعاد فشكاهم، فقال له المنصور: يابن أخى أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسى، قد أشربوا حب هذا الفتى (المهدى) فلو قدمته بين يديك فيكون بينى وبينك لكفوا، فأجابه، وقيل إن أبا جعفر لما أعياه الأمر فى خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، بعث إلى خالد بن برمك وقال له: هل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأى. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وسار إليه فى ثلاثين رجلا من كبار شيعة أبى جعفر، فأداره بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه، فخرج خالد فقال:
نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه إن أنكره، وساروا إلى أبى جعفر، فأعلموه أنه قد أجاب.
فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدى، وكتب بذلك إلى الآفاق، وبلغ الخبر عيسى فأتى أبا جعفر منكرا لما ادعى عليه، فدعاهم أبو جعفر فسألهم، فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب، وليس له أن يرجع، فأمضى أبو جعفر الأمر وشكر لخالد ما كان منه- انظر تاريخ الطبرى ٩: ٢٧٢، والفخرى ص ١٥٥.
(٢) البلاء يكون منحة، ويكون محنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>