للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رحما (١) ونصيحة له، فإن الجهاد جهاد المرء نفسه ثم حامّته (٢)، لأن النفس أمّارة بالسوء، والناس متزيّنون بالباطل، والشيطان شديد العداوة، لطيف (٣) الغشّ، بصير بالعورة، معدّ للفرصة، قد التمس أن يصعّب على نفسه ما ذلّل الله، ويحمل عليها مؤنة ما قدّم الله فيه الصّنع والكفاية.

قد علم أمير المؤمنين أنه لم يبلغ غاية التأديب، فإنه لا يبلغ ذلك دون انقطاع الأمور التى يحتاج فيها إلى الأدب، وليس لها نهاية دون الفناء، ولم يصبح يتعهّد أحدا من الناس بعد نفسه أحقّ منك بتعهّده، لأنك الثقة له، ولعدوه الثائر (٤) الأعظم، وإن الناس بأوساط الأرض وأقطارها يصيخون (٥) بأسماعهم إلى خبر: يودّون أن تزلّ قدم بعد ثبوتها، وتفسد حال بعد صلاحها، وتكلّ بصيرة بعد نفاذها، متخذين ذلك ذريعة إلى الإخلال بحق أمير المؤمنين، ولم يكن بين طاعته ومعصيته إلا ساعة من نهار.

وأمير المؤمنين لا ينكر قرب الطاعة من المعصية، قرب بعض الأمور من بعض، لسرعة تقلّب القلوب، واختلاف الحالات عند ميل الهوى، ولا ينكر جرى المقادير بغيب ذلك عن العباد، واستئثار الله بعلم ما لم يأتهم إلا بغتة، بل قد علم أمير المؤمنين أن أقواما فى قلوبهم ضغائن دونها الغدر يظهر أسرارهم، ويخرج أضغانهم، ثم يبلغ بغضبه منهم ما لم يكن ذلك عنده عزيزا، ولم يكن بهم امتناع، غير أنه قد أنكر وأنعم (٦) أن تعجل إلى «ابن ماهان» - وإن كان محلا بارزا- بأمر دون مؤامرته (٧)، ويكره لك العجلة فإنها موكّل بها الندم، وإنه كان يقال: «أصاب متأمّل أو كاد» وقالت العرب «فإمّا ترينّ أمرا رشدا، فتبيّن ثم ارعو، أو أقدم وأحكم» ولحقّ ما أمر الله عز وجل به من التبيّن، وما حذّر أن يصاب قوم بجهالة


(١) أى رحمة وعطفا.
(٢) الحامة: الخاصة.
(٣) أى دقيق، من لطف ككرم: إذا دق.
(٤) أى الآخذ بالثأر.
(٥) أصاخ له: استمع.
(٦) أنعم: زاد (أى فى إنكاره).
(٧) المؤامرة: المشاورة (أى مؤامرة أمير المؤمنين).

<<  <  ج: ص:  >  >>