للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولولا أن السلامة أكثر لما حملنا خزائننا فى البحر، قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهى صناع (١).

وعبتمونى بأن قلت لكم عند إشفاقى عليكم: إن للغنى لسكرا، وإن للمال لنزوة (٢)، فمن لم يحفظ الغنى من سكر الغنى فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتمونى بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غنىّ أمن الفقر، وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر، وقلتم: قد لزم الحثّ على الحقوق، والتزهيد فى الفضول، حتى صار يستعمل ذلك فى أشعاره بعد رسائله، وفى خطبه بعد سائر كلامه، وقد قال الشاعر فى يحيى بن خالد بن برمك:

عدوّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما (٣)

وقال فى محمد بن زياد:

وخليقتان: تقى وفضل تحرّم ... وإهانة فى حقّه للمال

وعبتمونى حين زعمت أنى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم (٤)، وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل، والأصل أحقّ بالتفضيل من الفرع، وأنى قلت: إن كنا نستبين الأمور بالنفوس، فإنا بالكفاية نستبين، وبالخلّة نعمى (٥)، وقلتم كيف تقول هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء، ومقدّم الأدباء: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ قال: بل العلماء، قيل: فما بال العلماء يأتون باب الأغنياء أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى، ولجهل


(١) خرقاء: وصف من الخرق بالتحريك، وهو أن لا يحسن المرء العمل والتصرف فى الأمور، وامرأة صناع حاذقة بالعمل ماهرة ويقال أيضا امرأة صناع اليدين: أى حاذقة ماهرة بعمل اليدين، وهو مثل يضرب لمن تظن به الغفلة وهو فظن يقظ.
(٢) النزوة: الوثبة والثورة.
(٣) وفى العقد «وهو تلاد المال ... » والتلاد: المال القديم الذى ولد عندك.
(٤) وفى البخلاء «به يغاث العالم».
(٥) الخلة: الفقر، ونعمى: فضل.

<<  <  ج: ص:  >  >>