للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ملجأ ولا مهربا، ثم أمكنهم من أهاليهم، وأولادهم، ونسائهم، وحرمهم، وصيّروا الدار دارهم، والمحلّة محلّتهم، والأموال قسما بينهم، والأهل إماء وعبيدا، وفوق ذلك كله ما فعل بهؤلاء وأعطاهم من الرحمة والثواب، وما أعدّ لأولئك من الخزى والعقاب، وصار الكافر بابك لا فيمن قتل، فسلم من ذلّ الغلبة ولا فيمن نجا، فعاين فى الحياة بعض العوض، ولا فيمن أصيب، فيشتغل بنفسه عن المصيبة بما سواه، لكنه سبحانه وتعالى أطلقه وسدّ مذاهبه، وتركه متلدّدا (١) بين الذل والخوف، والغصّة والحسرة، حتى إذا ذاق طعم ذلك كلّه وفهمه، وعرف موقع المصيبة، وظنّ مع ذلك كلّه أنه على طريق من النجاة، فضرب الله وجهه، وأعمى بصره، وسدّ سبيله، وأخذ بسمعه وبصره، وحازه إلى من لا يرقّ له، ولا يرثى لمصرعه. فامتثل ما أمر به الأفشين «حيدر بن كاوس (٢)» مولى أمير المؤمنين فى أمره، فبثّ له الحبائل، ووضع عليه الأرصاد، ونصب له الأشراك، حتى أظفره الله به أسيرا ذليلا موثقا فى الحديد، يراه فى تلك الحالة من كان يراه ربّا، ويرى الدائرة عليه من كان يظن أنها ستكون له.

فالحمد لله الذى أعزّ دينه، وأظهر حجّته. ونصر أولياءه، وأهلك أعداءه، حمدا يقضى به الحقّ، وتتمّ به النّعمة، وتتصل به الزيادة، والحمد لله الذى فتح على أمير المؤمنين وحقّق ظنّه، وأنجح سعيه، وحاز له أجر هذا الفتح وذخره وشرفه، وجعله خالصا لتمامه وكماله، بأكمل الصّنع وأحسن الكفاية، ولم ير بؤسا فيه ما يقذى عينه، ولا خلا من سرور يراه، وبشارة تتجدّد له عنه، فما يدرى أمير المؤمنين ما متّع فيه من الأمل، أو ما ختم له من الظفر، فالحمد لله أولا، والحمد لله آخرا، والحمد لله على عطاياه التى لا تحصى، ونعمه التى لا تنسى، إن شاء الله تعالى».

(صبح الأعشى ٦: ٤٠٠)


(١) تلدد: تلفت يمينا وشمالا؟ وتحير متبلدا، وتلبث.
(٢) هكذا فى تاريخ الطبرى (١٠: ٣٠٧) وفى زهر الآداب (١: ٣٢٤) وفى صبح الأعشى «حيدر بن طاوس» الطاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>