للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما ظنّك بسرف الغيظ وغلبة الغضب، من طيّاش، عجول فحّاش، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرّة (١) الحمراء، وأنت روح كما أنت جسم، وكذلك جنسك ونوعك، إلا أن التأثر فى الرّقاق أسرع، وضدّه فى الغلاظ الجفاة أكمل، ولذلك اشتدّ جزعى عليك من سلطان الغيظ وغلبته، فإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك، من مقدار عقابك عليه، فانظر فى علّته، وفى سبب إخراجه إلى معدنه الذى منه نجم، وعشّه الذى منه درج، وإلى جهة صاحبه فى التسرع والثبات، وإلى حلمه عند التعريض، وفطنته عند التوبة، فكلّ ذنب كان سببه ضيق صدر من جهة القبض (٢) فى المقادير، أو من طريق الأنفة، وغلبة طباع الحميّة من جهة الجفوة، أو من جهة استحقاقه فيما زيّن له عمله أنه مقصّر به فى حقه، مؤخّر عن رتبته، أو كان مبلّغا عنه مكذوبا عليه، أو كان ذلك جائزا فيه غير ممتنع عنه، فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل، فليس يقف عليها كريم، ولا ينظر فيها حليم، ولست أسمّيه بكثرة


(١) المرة والخلط (بالكسر وجمعه أخلاط) والمزاج (بالكسر أيضا وجمعه أمزجة): واحد، وهو ماركب عليه البدن من الطبائع الأربع: الدم والمرتين الصفراء والسوداء والبلغم. وجاء فى العقد الفريد ٣: ٢٨٧ فى باب طباع الإنسان: «زعم علماء الطب أن فى الجسد من الطبائع الأربع اثنى عشر رطلا، فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال ... » وفيه أيضا: «عن وهب بن منبه أنه قرأ فى التوراة أن الله عز وجل حين خلق آدم، ركب جسده من أربعة أشياء ثم جعلها وراثة فى ولده- وتنمو فى أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب ويابس وسخن وبارد، قال وذلك أنى خلقته من تراب وماء وجعلت فيه ببسا، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع أخر، وهى ملاك الجسد وقوامه، فإذن لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة إلا بالأخرى: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم الرطب الحار، والبلغم البارد، ثم أسكنت بعض هذا الخلق فى بعض، فجعلت مسكن اليبوسة فى المرة السوداء، ومسكن الرطوبة فى الدم ومسكن البرودة فى البلغم، ومسكن الحرارة فى المرة الصفراء، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع، وكانت كل واحدة فيه وفقا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته، واعتدلت بنيته، وإن زادت واحدة منهن غلبتهن وقهرتهن ومالت بهن، ودخل على أخواتها السقم من ناحيتها بقدر ما زادت، وإن كانت ناقصة عنهن ملن بها وعلونها، ودخل عليها السقم من نواحيهن، لفلتها عنهن، حتى تضعف عن طاقتهن، وتعجز عن مقاومتهن» اهـ.
(٢) فى الأصل «الفيض».

<<  <  ج: ص:  >  >>