للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معروفه كريما، حتى يكون عقله غامرا لعلمه، وعلمه غالبا على طباعه، كما لا أسمّيه بكفّ العقاب حكيما، حتى يكون عارفا بمقدار ما أخذ وترك، ومتى وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلا البغض المحض، والنّفار الغالب، فلو لم ترض لصاحبه بعقاب دون قعر جهنّم، لعذرك كثير من العقلاء، وصوّب رأيك عالم من الأشراف، والأناة أقرب من الحمد، وأبعد من الذم، وأنأى من خوف العجلة، وقد قال الأول:

«عليك بالأناة، فإنك على إيقاع ما تتوقعه أقدر منك على ردّ ما قد أوقعته» وليس يصارع الغضب أيام شبابه شىء إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه إلا قهره، وإنما يحتال له قبل هيجه، فمتى تمكن واستفحل، وأذكى ناره وأشعل، ثم لاقى من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو استبطنته بالتوراة، وأوجرته (١) بالإنجيل، ولددته (٢) بالزبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم شفيعا، لما قصّر دون أقصى قوّنه، ولن يسكن غضب العبد إلا ذكّره غضب الرّبّ.

فلا تقف- حفظك الله- بعد مضيّك فى عتابى التماسا للعفو عنى، ولا تقصّر عن إفراطك من طريق الرحمة بى، ولكن قف وقفة من يتّهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أن للكرم أعداء، ويمسك إمساك من لا يبرّئ نفسه من الهوى، ولا يبرئ الهوى من الخطأ، ولا تنكر لنفسك أن تزلّ، ولعقلك أن يهفو، فقد زلّ آدم صلى الله عليه وسلم، وقد خلقه بيده، ولست أسألك إلا ريثما تسكن نفسك، ويرتدّ إليك ذهنك، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة، والله يعلم- وكفى به عليما- لقد أردت أن أفديك بنفسى فى مكاتباتى، وكنت عند نفسى


(١) وجرته الدواء، وأوجرته إياه: جعلته فى فيه، والوجور كصبور: الدواء يوجر فى وسط الفم.
(٢) اللدود كصبور، وككريم: ما يصب بالمسعط من الدواء فى أحد شقى الفم، وقد لده إياه وألده.

<<  <  ج: ص:  >  >>