للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويرجع إلى جودة احتياطه، وشدة احتراسه، واعتلال البخيل بالحدثان (١)، وسوء الظن بتقلّب الزمان، إنما هو كناية عن سوء الظن بخالق الحدثان، وبالذى يحدث الأزمان وأهل الزمان، وهل تجرى الأحداث إلا على تقدير المحدث لها؟ وهل تختلف الأزمنة إلّا على تصريف من دبّرها؟ أولسنا وإن جهلنا أسبابها فقد (٢) أيقنّا بأنها تجرى إلى غاياتها؟ والدليل على أنه ليس بهم خوف الفقر، وأنّ الجمع والمنع إمّا أن يكون عادة منهم، أو طبيعة فيهم، أنّك قد تجد الملك بخيلا، ومملكته أوسع، وخرجه أدرّ، وعدوّه أسكن، وتجد آخر أكثر منه جودا (٣)، وإن كانت مملكته أضيق، وخرجه أقلّ، وعدوّه أشدّ حركة، وقد علمنا أن الزّنج أقصر الناس مرّة (٤) ورويّة، وأذهلهم عن معرفة العاقبة (٥)، فلو كان سخاؤهم إنما هو لكلال حدّهم (٦)، ونقص عقولهم، وقلة معرفتهم، لكان ينبغى لفارس أن تكون أبخل من الرّوم، وتكون الروم أبخل من الصّقالبة (٧)، وكان ينبغى فى الرجال- فى الجملة- أن يكونوا أبخل من النساء- فى الجملة- وكان ينبغى للصّبيان أن يكونوا أسخى من النساء، وكان ينبغى أن يكون أقلّ البخلاء عقلا أعقل من أشد الأجواد عقلا، وكان ينبغى للكلب- وهو المضروب به المثل فى اللؤم- أن يكون أعرف بالأمور من الديك المضروب به المثل فى الجود (٨)، وقالوا هو أسخى من


(١) أى بالخوف من حوادث الدهر.
(٢) الفاء زائدة.
(٣) فى بعض النسخ «وتجد أحزم منه جوادا».
(٤) المرة: العقل والأصالة والإحكام، وفى الأصل «مدة» وهو تحريف.
(٥) أى وهم مع ذلك أسخياء.
(٦) كلال الحد: أصله فى السيف والسكين ونحوهما، والمراد هنا قلة الذكاء.
(٧) الصقالبة: جيل تتاخم بلادهم بلاد الخزر (فى الروسيا الآن) - وبحر الخزر بالتحريك هو بحر قزوين-.
(٨) وصف الديك بالجود لأن من عادته أن يدعو الدجاج ويثير لها الحب.

<<  <  ج: ص:  >  >>