للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فقد بلغنى ما كان من ذكر أبى العاص لنا» وتنويهه (١) بأسمائنا، وتشنيعه علينا، وليس يمنعنا من جوابه إلا أنه إن أجابنا لم يكن جوابنا أيّاه على قوله الثانى أحقّ بالترك من جوابنا له على قوله الأول، فإن نحن جعلنا لابتدائه جوابا، وجعلنا لجوابه الثانى جوابا، خرجنا إلى التّهاتر (٢)، وصرنا إلى التخابر (٣)، ومن خرج إلى ذلك فقد رضى باللّجاج (٤) حظّا، وبالسّخف (٥) نصيبا، وليس يحترس من أسباب اللجاج إلا من عرف أسباب البلوى (٦)، ومن وقاه الله سوء التكفى (٧) وسخفه، وعصمه من سوء التصميم (٨) ونكده، فقد اعتدلت طبائعه، وتساوت خواطره، ومن قامت أخلاطه على الاعتدال وتكافأت خواطره فى الوزن، لم يعرف من الأعمال إلا الاقتصاد، ولم يجد أفعاله أبدا إلا بين التقصير والإفراط، لأن الموزون لا يولّد إلا موزونا، كما أن المختلف لا يولّد إلا مختلفا (٩)، فالمتتايع (١٠) لا يثنيه زجر، وليست له غاية دون التّلف، والمتكّفى ليس له مأتى ولا جهة، ولا له رقية (١١) ولا فيه حيلة، وكلّ متلوّن (١٢) فى الأرض فمنحلّ العقد،


(١) التنويه هنا: الذكر، أى وذكر أسمائنا، فقد تقدم قول أبى العاص فى أول رسالته إلى الثقفى «واختلافك إلى ابن التوءم».
(٢) تهاترا: ادعى: كل على صاحبه باطلا.
(٣) تخابر الرجلان: تغالبا فى العلم والمعرفة، يقال: خابره فى العلم فخبره: أى غالبه فعلبه، وفى النسخ «التجابر» ولم نجد لها معنى.
(٤) التمادى فى الخصومة.
(٥) السخف: ضعف العقل.
(٦) أى لأن اللجاج يؤدى حتما إلى شر ومصيبة، فمن تجنب أسبابه تجنب أسباب المصائب.
(٧) الذى فى لسان العرب. التكفؤ: التمايل إلى قدام، يهمز ولا يهمز، والأصل الهمز، تكفأ تكفؤا كتقدم تقدما، فإذا خففت الهمزة التحق بالمعتل وصار تكفى تكفيا كتسمى تسميا، ولكن المراد بالتكفى هنا: اكتفاء المرء برأى نفسه وتشبثه به واستبداده، يؤيد ذلك الفقرة التالية.
(٨) التصميم: المضى فى الأمر من غير إصغاء إلى نصح.
(٩) أى لأن الأفعال آثار الأمزجة، فإذا كانت الأمزجة معتدلة متزنة أنتجت أفعالا متزنة، وإذا كانت مضطربة أنتجت أفعالا كذلك.
(١٠) لتتايع: المتهافت على الشر المتمادى فيه المسرع إليه من غير تثبت أو نظر فى الأمور.
(١١) أى لا تجد منفذا لهدايته وإرشاده، ولا تنفع فيه الوسائل، وهو أشبه بمن مسته الجن، لا تنفع فيه رقية. والرقية: ما يقرأ للمحموم والمصروع ليشفى.
(١٢) المتلون المنقلب فى الرأى، له فى كل ساعة رأى.

<<  <  ج: ص:  >  >>