للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد خص السّرف بما لم يخصّ يه الحمّية (١)، لأنه ليس حبّ المرء لرهطه من المعصية، ولا أنفته من الضيم من حميّة الجاهلية، وإنما المعصية ما جاوز الحقّ، والحمية المعيبة ما تعدّى القصد، فوجدنا اسم الأنفة قد يقع محمودا ومذموما، وما وجدنا اسم المعصية ولا اسم السّرف يقع أبدا إلا مذموما، وإنما يسرّ باسم السرف جاهل لا علم له، أو رجل إنما يسرّ به لأن أحدا لا يسميه مسرفا حتى يكون عنده قد جاوز حدّ الجود، وحكم له بالحق ثم أردفه بالباطل (٢)، فإن سرّ من غير هذا الوجه (٣)، فقد شارك المادح فى الخطأ، وشاكله فى وضع الشىء فى غير موضعه.

وقد أكثروا فى ذكر الكرم، وما الكرم إلا كبعض الخصال المحمودة التى لم يعدمها بعض الذمّ (٤)، وليس شىء يخلو من بعض النقص والوهن، وقد زعم الأولون أن الكرم يسبّب الغبا (٥)، وأن الغبا يسبّب البله (٦)، وأنه ليس وراء البله إلا العته (٧)، وقد حكوا عن كسرى أنه قال: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع» وسواء جاع فظلم، وأحفظ وعسف، أم جاع وكذب، وضرع وأسفّ (٨)، وسواء جاع فظلم غيره، أم جاع فظلم نفسه، والظلم لؤم، وإن كان الظلم ليس بلؤم، فالإنصاف ليس بكرم، وإن كان الجود على من لا يستحق الجود كرما، فالجود لمن وجب له ذلك ليس بكرم، فالجود إذا كان لله كان شكرا له، والشكر كرم،


(١) أى مع أن الله عاب الحمية فإن هناك ضربا من الحمية محمودا، أما السرف والمعصية فمذمومان على الإطلاق، وليس فى أحمدهما نوع محمود.
(٢) أى أنه يسر بوصفه بالسرف، لأن هذا الوصف يتضمن معنى الجود، ثم مجاوزة الحد فيه، فواصفه فى هذه الحال حكم له بالجود ضمنا، وهذا حق، ثم أردفه بالباطل وهو مدح السرف.
(٣) أى وظن أن مادحه يصفه بالجود المحمود الذى لم يخرج إلى السرف.
(٤) أى لم يفقد منها بعض الذم بتجاوزها القصد أو بالمغالاة قيها.
(٥) الغبا: عدم الفطنة، غبى الشىء وعنه كفرح غبا وغباوة وعبارة النسخ «أن الكرم يسبب الغنى وأن الغنى ... ».
(٦) البله: ضعف العقل وبابه فرح.
(٧) فى النسخ «المعتوه» والعته: نقص العقل أو فقده، والمراد هنا الثانى.
(٨) أسف: انحط إلى دنيئات الأمور.

<<  <  ج: ص:  >  >>