للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد اكتفى من دنياه بطمريه (١)، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونى بورع واجتهاد، وعفّة وسداد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالى ثوبى طمرا (٢)، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منها إلّا كقوت أتان دبرة (٣)، ولهى فى عينى أوهى وأهون من عفصة مقرة، بلى كانت فى أيدينا «فدك (٤)» من كل ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم (٥)، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظلّتها فى غد جدث (٦)، تنقطع فى ظلمته


(١) الطمر: الثوب الخلق البالى، والطعم: الطعام، وروى «قد اكتفى من الدنيا بطمريه، وسد فورة جوعه بقرصيه، لا يطعم الفلذة فى حوليه إلا فى يوم أضحيته» - والفلذة بالكسر: القطعة من اللحم.
والتبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغا، والوفر: المال الكثير الواسع.
(٢) يقسم أنه ما أعد ثوبا باليايلبسه بدلا عن ثوبه الذى يبلى، فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا جديدا كما يفعل الناس.
(٣) هى التى عقر ظهرها فقل أكلها، أو هى أضعف. وأهون: أخس. والعفص:
الذى يتخذ منه الحبر، ويدبغ به، ومقرة: أى مرة، مقر الشئ بالكسر وأمقر: صار مرا.
(٤) فدك: قرية بخيبر فيها عين ونخل كثير، بينها وبين المدينة يومان، أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سنة سبع صلحا، فكانت خالصة له ينفق ما يأتيه منها فى أبناء السبيل، فلما قبض عليه الصلاة والسلام جاءت فاطمة رضى الله عنها أبا بكر رضى الله عنه تطلب ميراثها من أبيها، وهو أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لها أبو بكر: أما إنى سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإنى والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته، فهجرته فاطمة فلم تكلمه فى ذلك حتى ماتت، وروى أنه قال لها: سمعت رسول الله يقول:
إنما هى طعمة أطعمنيها الله تعالى حياتى، فاذا مت فهى بين المسلمين. وروى أيضا أنها قالت له: إن رسول الله جعل لى فدك فأعطنى إياها، وشهد لها على بن أبى طالب رضى الله عنه، فسألها شاهدا آخر، فشهدت لها أم أيمن مولاة رسول الله، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا يجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فانصرفت، كما روى أيضا أن فاطمة سألت أباها أن يهبها لها، فأبى وقال: ما كان لك أن تسألينى، وما كان لى أن أعطيك، ثم أدى اجتهاد عمر لما ولى الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين أن يردها إلى ورثة رسول الله، فكان على والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها، فكان على يقول:
إن رسول الله جعلها فى حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هى ملك رسول الله وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، أما أنا فقد سلمتها إليكما، وسنعود إلى استيفاء الكلام فى هذا الموضوع فى الجزء الثانى فى (خلافة عمر بن عبد العزيز) إن شاء الله.
(٥) يعنى العباس كما تقدم لك، وسخت عنها: أى أغصت وسامحت، يعنى نفسه.
(٦) مظان جمع مظنة: وهى الموضع الذى يظن فيه وجود الشئ، والجدث: القبر، والمدر: قطع الطين اليابس، وضغطه: زحمه وعصره وضيق عليه، وأضغطها الحجر: أى جعلها ضاغطة للميت عاصرة له

<<  <  ج: ص:  >  >>