للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد فى فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم، وإنما هى نفسى أروضها (١) بالتقوى، لتأتى آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبّت على جوانب المزلق.

ولو شئت لا هتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل. ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبنى هواى، ويقودنى جشعى (٢) إلى تخير الأطعمة، ولعلّ بالحجاز وباليمامة من لا طمع له فى القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطانا وحولى بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك عارا أن تبيت ببطنة ... وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ (٣)

أأقنع من نفسى بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم فى مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم فى جشوبة العيش (٤)؟ فما خلقت ليشغلنى أكل الطيّبات.

كالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها (٥)، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدّى وأهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة (٦).


(١) أروضها: أذللها، والمزلق: أى الموضع الذى يخشى فيه الزلق والزلل وهو الصراط.
(٢) الجشع: شدة الحرص، والمبطان: الذى لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل، وغرثى:
جائعة، مؤنث غرثان، وفعله كفرح، وحرى: عطشى، مؤنث حران وفعله كظل، وروى «ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى، ولباب هذا البر المنقى، فضربت هذا بذاك حتى ينضج وقودا، ويستحكم معقودا» وروى «ولعل بالمدينة يتيما تربا، يتضور سغبا، أبيت مبطانا وحولى بطون غرثى. إذن يحضرنى يوم القيامة وهم من ذكر وأنثى» - والترب كفرح: الفقير، والتضور التلوى من وجع الجوع، والسغب كسبب وشمس: الجوع.
(٣) البطنة: الكظة بالكسر، وذلك أن يمتلئ الانسان من الطعام امتلاء شديدا، والقد بالكسر الشئ المقدود: أى المقطوع، من قده قدا بالفتح إذا قطعه، والقدة بالكسر: القطعة من الشئ. والمعنى أنها تحن إلى كسرة من خبز أو فلذة من لحم ... ، والبيت لحاتم بن عبد الله الطائى.
(٤) الأسوة بالضم والكسر: القدوة، والجشوبة: الخشونة
(٥) نقممها: أى تتبعها القمامات. أى الكناسات والتقاطها، أو أكلها ما بين يديها بمقمتها والمقمة (كمكنسة وتفتح) لذوات الظلف كالثور: الشفة، وتكترش: أى تملأ كرشها.
(٦) اعتسف: ركب الطريق على غير هدى، والمتاهة: الأرض يتاه فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>