للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكأنى بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبى طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشّجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عودا (١)، والروائح الخضرة أرق جلودا، والنابتات البدوية (٢) أقوى وقودا: وأبطأ خمودا، وأنا من رسول الله كالصّنو من الصّنو (٣)، والذراع من العضد، والله لو تظاهرت العرب على قتالى لما وليّت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد فى أن أطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس (٤)، والجسم المركوس، حتى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.

إليك عنى يا دنيا، فحبلك على غاربك (٥)، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب فى مداحضك، أين القوم الذين غررتهم بمداعبك؟

أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك، هاهم رهائن القبور، ومضامين اللّحود، والله لو كنت شخصا مرئيّا، وقالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود الله فى عباد غررتهم بالأمانى، وأمم ألقيتهم فى المهاوى، وملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر (٦)، هيهات! من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق، والسالم منك لا يبالى إن ضاق به مناخه،


(١) الشجرة البرية التى تنبت فى البر الذى لا ماء فيه، فهى أصلب عودا من الشجرة التى تنبت فى الأرض الندية، والروائع الخضرة: أى الأشجار والأعشاب التى يروعك (أى يعجبك) حسنها.
(٢) ورواية ابن أبى الحديد «والنابتات العذية» والعذى بكسر فسكون: الزرع الذى لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده من المياه، وهو يأخذ من الماء أقل من النبت سقيا.
(٣) إذا خرجت نخلتان أو ثلاث من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو، والاثنان صنوان، والجمع صوان برفع النون، ورواه ابن أبى الحديد «كالضوء من الضوء» وشرحه فقال: «وذلك لأن الضوء الأول يكون علة فى الضوء الثانى ... الخ» وأفاض فى ذلك وأطنب، وتكلف فيه تكلفا لا داعى إليه.
(٤) عنى به معاوية، والمراد انعكاس عقيدته وأنها ليست عقيدة هدى، بل هى معاكسة للحق والصواب، والمركوس من الركس: وهو رد الشئ مقلوبا، وقلب أوله على آخره، والمدرة: قطعة الطين اليابس، وحب الحصيد: أى حب النبات المحصود، والمعنى: حتى يتطهر الدين وأهله منه.
(٥) الغارب: الكاهل وما بين السنام والعنق، والجملة كناية من كنايات الطلاق: أى اذهبى حيث شئت، والمداحض: المزالق، والمداعب جمع مدعبة، من الدعابة بالضم وهى المزاح، ومضامين المحود: أى قد تضمنتهم اللحود وحوتهم.
(٦) الورد: ورود الماء، والصدر: الصدور عنه بعد الشرب، ومكان دحض: أى زلق لا تثبت فيه الأرجل، وازور: مال وانحرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>