للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عمل، أو موضع أمانة، أو موطن جهاد، وكان من رأى أهل الفضل أن يقصدوا حيث يلتمسون، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا وينتفع بهم، وإن كان صاحب السلطان ممن لم يعرف الناس قبل أن يليهم، ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم، ولم يستثبت فى استقضائهم، زالت الأمور عن مراكزها، ونزلت الرجال عن منازلها، لأن الناس لا يلقوته إلا متصنّعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشدّ تصنعا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطّفا للوزراء، وتمحّلا لأن يثنى عليهم من وراء وراء، فإذا آثر الولى ان يستخلص رجلا واحدا ممن ليس لذلك أهلا، دعا إلى نفسه جميع ذلك الشّرج (١)، وطمعوا فيه، واجترءوا عليه، وتواردوه، وزحموا على ما عنده، وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفّوا عنه وباعدوا منه، وكرهوا أن يروا فى غير موضعهم، أو يزاحموا غير نظرائهم.

ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين الصرين، وغيرهما من الأمصار والنواحى، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة، التى قد بلغ اختلافها أمرا عظيما فى الدّماء والفروج والأموال، فيستحلّ الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرّمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف فى جوف الكوفة، فيستحلّ فى ناحية منها ما يحرّم فى ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين فى دمائهم وحرمهم، يقضى به قضاة جائر أمرهم وحكمهم، مع أنه ليس ممّن ينظر فى ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلّا قد لجّ بهم العجب مما فى أيديهم، والاستخفاف بمن سواهم، فأقحمهم ذلك فى الأمور التى يتبيّغ (٢) بها من سمعها من ذوى الألباب، مّا من يدّعى لزوم السّنّة منهم فيجعل ما ليس له سنّة سنّة حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بيّنة ولا حجّة على الامر الذى يزعم أنه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول هريق فيه دم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، او أئمة الهدى من بعده، وإذا قيل له: أىّ


(١) الشرج: النوع والمثل.
(٢) تبيغ به الدم: هاج به.

<<  <  ج: ص:  >  >>