دم سفك على هذه السّنّة التى تزعمون؟ قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أمير من بعض أولئك الأمراء، وإنما يأخذ بالرأى، فيبلغ به الاعتزام على رأيه، أن يقول فى الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا لا يوافقه عليه أحد من المسلمين، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك، وإمضائه الحكم عليه، وهو مقرّ أنه رأى منه، لا يحتجّ بكتاب ولا سنة.
فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسّنن المختلفة فترفع إليه فى كتاب؛ ويرفع معها ما يحتجّ به كل قوم من سنّة، أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين فى ذلك، وأمضى فى كل قضية رأيه الذى يلهمه الله، ويعزم له عليه، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا عزما، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ، حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السّير قربة لإجماع الأمر براى أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر آخر الدهر إن شاء الله.
فأمّا اختلاف الأحكام، فإمّا شىء مأثور عن السّلف غير مجمع عليه، يدبّره قوم على وجه، ويدبّره آخرون على وجه آخر، فينظر فيه إلى أحقّ الفريقين بالتصديق، وأشبه الأمرين بالعدل. وإما رأى أجراه أهله على القياس، فاختلف وانتشر بغلط فى أصل المقايسة، وابتداء أمر على غير مثاله، وإما لطول ملازمته القياس، فإن من أراد أن يلزم القياس، ولا يفارقه أبدا فى أمر الدين والحكم، وقع فى الورطات ومضى على الشّبهات، وغمّض على القبيح الذى يعرفه ويبصره، فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس، وإنما القياس دليل يستدلّ به على المحاسن، فإذا كان ما يقود إليه حسنا معروفا أخذ به، وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك، لأن المبتغى ليس عين (١) القياس يبغى، ولكن محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق الحقّ بأهله،
(١) فى الأصل «ليس غير القياس»، وهو تحريف لأنه ضد المعنى المقصود.