للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو أن شيئا مستقيما على الناس، ومنقادا حيث قيد، لكان الصدق هو ذلك، ولا يعتبر بالمقاييس، فإنه لو أراد أن يقوده الصدق لم ينقد له، وذلك أن رجلا لو قال:

أتأمرنى أن أصدق فلا أكذب كذبة أبدا، لكان جوابه أن يقول: نعم، ثم لو التمس منه قود (١) ذلك فقال: أأصدق فى كذا وكذا، حتى يبلغ به أن يقول:

أأصدق فى رجل هارب، استدلّتى عليه طالب ليظلمه فيقتله، لكسر عليه قياده، وكان الرأى له أن يترك ذلك، وينصرف إلى المجتمع عليه المعروف المستحسن.

ومما يذكّر به أمير المؤمنين أهل الشام، فإنهم أشدّ الناس مؤنة، وأخوفهم عداوة وبائقة، وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة، ولا يطمع منهم فى الاستجماع على المودّة، فمن الرأى فى أمرهم أن يختصّ أمير المؤمنين منهم خاصّة، ممن يرجو عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم فى الرأى والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق الذين استدخلهم أهل الشام، ولكن أخذ فى أمر أهل الشام على القصاص (٢). حرموا كما كانوا يحرمون الناس، وجعل فيئهم إلى غيرهم كما كان فىء غيرهم إليهم، ونحّوا عن المنابر والمجالس والأعمال كما كانوا ينحّون عن ذلك من لا يجهلون فضله فى السابقة والموضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذى يصنعه أمراؤهم للعامّة، فإذا رغب أمير المؤمنين بنفسه عن هذه السّيرة وما أشبهها، فلم يعارض (٣) ما عاب، ولم يمثّل ما سخط؟ كان العدل أن يقتصر بهم على فيئهم، فيجعل ما خرج من كور الشام فضلا عن النفقات،


(١) الفود: والمعنى أن يتابع الصدق فى كل ما يقول.
(٢) فى الأصل «وليس أحد فى أمر أهل السلم على القصاص» وقد أصلحته كما ترى.
(٣) أى لم يأتى بمثله.

<<  <  ج: ص:  >  >>