للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آباؤنا خليفة أبعد فى حلمه من ذلّ، ولا فى هيبته من تجبّر، ولا فى شدّته من عنف، ولا فى لينه من وهن، ولا فى أناته من غفلة، ولا فى اقتصاده من بخل، ولا فى بذله من إضاعة، ولا أرقّ وجها عند لقاء، ولا أحسن بشرا عند تحيّة، ولا أغزر دمعا عند موعظة، ولا ألين قيادا عند تذكير بالله منه.

ثم أفضت إليه الخلافة، وفى المال ما فيه من القلة، وفى الناس ما فيهم من الاستجراح (١)، فما دفع عن مال يعطيه عن قلّة، ولا قطع عادة توسعة على رعيته، ثم استدرّ الحلب برفقه، فكلما درّ له منه شخب (٢) فوّقه طائفة من جنده، حتى سقاهم بعد التفويق ريّا، وبعد النّهل عللا (٣)، ثم ساس رعيته بألين السياسة، فعفا عن مذنبها ولو شاء لعاقب، وآمن خائفها ولو طلب لأدرك، ودفع بالحسنة السيئة ولو كافأ لقدر، فما برح صنع الله له يفضّ جموع الضّلالة بلا قتال، ويعزّ له النصر بلا مكاثرة، حتى فرغ- بشغله- من كان لا يفرغ من الوزراء، ونام- بسهره- من كان لا ينام من العامّة، واطمأنت- بمفاءاته (٤) للأسفار- دار من كان لا ينال الخفض من الجنود حتى استوطئوا مركب الأمن، فكلهم ضنين بمفارقته.

أمّا ذو النية فركن إلى الخفض (٥)، وأمّا من لا يد له (٦) ففعل ما كان يؤخذ به من الاستكراه، وأما الحشو من الجند والرّعاع فغلبت عليهم عادة الهوينى، حتى لقد رأيناه يحزبه (٧) الأمر، فما يجد له الأمر غناء عنده إن وكله إلى قوّته، ولا نشاطا ولا جدّا، ولا قوّة بماله (٨)، فلما رأى ما رأى من تخاذل العامّة، وتواكل


(١) الاستجراح: النقصان والعيب والفساد.
(٢) الشخب بالفتح والضم: ما خرج من الضرع من اللبن إذا احتلب، وفوقه إياه: أعطاه إياه قليلا قليلا.
(٣) النهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثانى.
(٤) جمع مفاءة، من فاء: إذا رجع.
(٥) الخفض: الدعة، وفى الأصل «النفض».
(٦) اليد: القوة، وفى الأصل «لا يبدله».
(٧) حزبه الأمر كنصر: اشتد عليه، وفى الأصل «حتى لو» وهو تحريف، والغناء: الكفاية.
(٨) فى الأصل، «وقواه بماله» يشير بذلك إلى ما كان من البرامكة من استئثارهم بأمور الدولة وتصريف أحوال السلطان واحتجان الأموال.

<<  <  ج: ص:  >  >>