للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الجزيرة فإنه ألفاها وهى كالجرح النّغل (١)، فاستأصل الله به منها شأفة الداء، وأطفأ به عنها نوائر (٢) السفهاء، وخيّر أمير المؤمنين من منزله الذى هو به منزلا جمع من بسطة فى الموضع، ورفاغية (٣) فى المعاش، أنه حامل للجنود، جامع للمرافق، فباشر أمره أمرا أمرا، حتى إذا استدبر (٤)، له منها مبرم، استقبل بعده جسام (٥) منتقض، وإذا أثخن (٦) من ثغوره ثغر لم يرض حتى يفتتح من حصون أعدائه حصنا، وإذا قضى الله عنه حجّة، وصل خطوه منها عزّا، ثم رأينا ما عزم الله به عليه من ترك الصوائف (٧)، مراقبا للذى كان من غموط (٨) أهل الشام لما كانوا فيه من النعمة، فلم نشكك فى أنه توفيق من الله له وافق سخطا عليهم، حتى استباحوا الحرم، وتسافكوا الدماء، ونقضوا ما بينهم من مبرم حبل الإسلام.

ومن ذلك أن أرمينية كانت فيها جنود تخرج عليهم أطماع (٩)، وتحمل إليهم- بعد اعترافهم خراجهم- الأموال من كور الشام، فلما رأى ذلك فعل كذا وكذا، فلم يتوكّل على الله فى أمره فوكله إلى نفسه، ولم يكتف به فى حفظ طرف أو قاصية ثغر إلّا كفاه مئونته، وعلم أن ما يدخل منن (١٠) أضعاف العافية من عوارض العلل، إنما هو تقدير من الله لا يمتنع بعذر، ولا يستطاع دفعه بحيلة، يصيب فيه أقواما بالبلايا والتمحيص، ويقسم فيه لأقوام الأجر والجهاد والسعادة، فرأى أنّ فى عاجل


(١) من نغل الأديم كفرح: إذا فسد فى الدباغ، والشأفة: قرحة تخرج فى أسفل القدم فتكوى فتذهب، والأصل، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو معناه: أزاله من أصله.
(٢) نوائر: جمع نائرة، وهى العداوة والشحناء، وفى الأصل «بوائر».
(٣) الرفاغية: الرفاهية، سعة العيش والخصب.
(٤) فى الأصل «استدمج».
(٥) شىء جسيم وجسام: عظيم.
(٦) أثخنه: غلبه وأوهنه، وفى الأصل «وإذا أشحن من ثغوره ثغرا» وهو تحريف.
(٧) الصوائف: جمع صائفة، وهى غزوة الروم، لأنهم كانوا يغزون صيفا لمكان البرد والثلج.
(٨) غمط النعمة كضرب وسمع: بطرها وحقرها ولم يشكرها (غير أن الوارد فى كتب اللغة أن مصدره غمط كشمش لا غموط).
(٩) أطماع: جمع طمع بالتحريك، وهو رزق الجند.
(١٠) المنن: جمع منة بالضم، وهى: القوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>