للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقدم إقدام ذى الحجّة، فلم ير مثلها نارا خبت (١)، وسحابة أقشعت، لم يسفك بها دم امرئ مسلم صبرا، ولم ينتهك فيها حرمة محرّم إباحة، وذلك أنه بسط يده بسط من يريد الاستصلاح لا من يريد الانتقام، فلم يلبث الظالع (٢) أن رجع عن ظلعه، والناطق أن صمت عن بدعته، والناكث أن رجع إلى قصده، وازداد البرىء على البراءة فرحا، والسّالم بالسلامة اغتباطا.

ولم نر مثله فيما أفضى الله به إليه من خلافته، وحمّله من أمور عباده، أمّا ليله بمناجاة ربّه فيها واستعانته إياه عليها فساهر، وأمّا نهاره فى جلب فيئها وإحكام أمورها فتعب، وأما صدقاته على فقرائها وأهل الحاجة فجارية، وأما مجلسه من فقهائها وصلحائها فغاصّ (٣)، وأما غلظته على ظالمها فعتيدة (٤)، وأما إفضاله لمظلومها فمبسوط، ولئن كان الحق لزم أقواما استوجبوا فى أنفسهم وأموالهم، إنّا لنعلم أنّ ما ترك أكثر، وأنه لولا ما خفّف من الوطأة على أقوام لحمّل الواحد منهم مثل الذى حمّله للجميع، ولكنه رضى بالعفو، وسخا نفسا عن الاستقصاء، فأوجب أن يبسط يدا بغلظة، ويتبعها أخرى بلين، فكان من ذلك نظره فى هذه البقايا التى هى فىء المسلمين ومال الله، غير أن الله جعله قيّمه فيه، وفى أخذه وصرفه فى وجوهه، فلما رأى ضراوة (٥) العمّال بها، ومصانعتهم دونها، وأن قد صارت كالسّنّة اللازمة، لا يدعها عفيفهم تورّعا، ولا شريفهم تنزّها، أحبّ مع توفيره للمسلمين فيئهم أن يحدث لهم أدبا يفطم به عنهم أهل الضّراوة، ويعرف به ذوو الاستخفاف بالأمانة والأمن (٦) للتّبعة، أن لهم من تفقّده وأدبه عينا ترمق، ويدا تقبض، ولو أنه حين همّ بأخذ تلك البقايا حمل على


(١) خبت: انطفأت؛ وأقشع السحاب وانقشع وتقشع: انكشف.
(٢) من ظلع كمنع: إذا غمز فى مشبه، والمراد المنحرف الزائغ.
(٣) منزل غاص بالقوم: أى ممتلئ.
(٤) أى حاضرة مهيأة.
(٥) ضرى به كرضى ضراوة: لهج به وأغرى، والمصانعة، الرشوة والمداهنة.
(٦) فى الأصل «والأمر» وهو تحريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>