للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منها أن قادة جنودكم وساسة حربكم، كانوا بعد وقوع أمرها واستحكام عقدها، فراغا لمحاربة أعدائكم، ومناصبة من ناوأكم (١)، بين أن يستعجموهم (٢) فى بلادهم، وينزلوا عليهم فى ديارهم، ولا يرهبون تعقّب بشر إن ساروا فى أرضهم، ولا يتخوّفون طرادا إن اجتمعوا لقتالهم، أن يقيموا فى خفض ودعة، وأمن وسعة، مع الأزواج والأولاد والعيال والأوطان والرّباع والمحالّ، وهم اليوم يترقّبون الجيوش من كل شعب، ويتخوّفون الحتوف فى كل وقت، لا يهدأ لهم جأش (٣)، ولا يسكن لهم فزع، ولا ينام لهم ليل، ولا يأمن فيهم حال، قد قطعت الهموم دابرهم، وأضمرت المخاوف جنوبهم، واستأصلت الجنود أموالهم.

ومنها: أن أهل الحراثة وإخوان العمارة فى بلادك وأطراف أرضك، كانوا سراعا إلى عمارة أرضهم، وإصلاح ما تحت أيديهم، فيما لا قوام لهم ولا لمعاشهم إلا به، ولا بقاء لدينهم إلا معه، قد أمنوا الجيوش ومعرّتها، والجنود وبادرتها (٤)، وانتشروا للعمارة، وابتكروا فى الزراعة، فارقوا رءوس الجبال وأقحام الغياض (٥)، وراحوا فى أوساط أوطانهم، وظلال محالّهم، يشقّقون الأنهار، ويغرسون الأشجار، ويفجّرون العيون، حتى نمت الأموال، واخضرّت المحال، وأخصب الجناب، وأصبحوا اليوم عن الزراعة ممسكين، وللحراثة تاركين، وبغيرها مشتغلين فى إصلاح آلات الهرب، وإحراز العيال فى الحصون، ورمّ القلاع للجلاء، وتحريش الحصون للبلاء، قد انتقلوا عن منابت البرّ، وكرائم الأرض، ومجارى المياه، إلى أوشال (٦) الجبال، وأشجار الغياض، وبطون الأودية، فليس يبلغون من عمارة بلادهم، ولزوم أوطانهم، ومن


(١) ناوأه: عاداه.
(٢) كذا فى الأصل.
(٣) الجأش: النفس، ورواع القلب إذا اضطرب عند الفزع، وفى الأصل «لا سكن لهم جأش»
(٤) البادرة: ما يبدر من حدتك فى الغضب من قول أو فعل.
(٥) الغياض: جمع غيضة بالفتح، وهى الأجمة ومجتمع الشجر فى مغيض ماء.
(٦) الأوشال: جمع وشل بالتحريك، وهو الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>