للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>


ذكروا أنه لما نوظر فى الأيام الثلاثة كان المعتصم يخلو به ويقول له: ويحك يأحمد! أنا والله عليك شفيق، وإنى لأشفق عليك مثل شفقتى على ابنى هرون «يعنى الواثق» فأجبنى، فو الله لئن أجبتنى لأطلقن غلك بيدى، ولأطأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندى، فيقول: يا أمير المؤمنين أعطونى شيئا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس ضجر وقام، ورد أحمد إلى الموضع الذى كان فيه، وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يأحمد أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول فى القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولا. فلما كان فى اليوم الثالث طلب للمناظرة فأدخل على المعتصم وعنده وزيره محمد بن عبد الملك الزيات والقاضى أحمد بن أبى دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه، فلم يزالوا معه فى جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه فى أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد فخر مغشيا عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان- وكان عم أحمد فيهم- فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما أفاق من غشيته رفع رأسه إلى عمه. وقال يا عم لعل هذا الماء الذى رش على وجهى غضب عليه صاحبه، فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به على هذا وقرابتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا رفعت السوط عنه حتى يقول القرآن مخلوق، ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول، فلم يزل كذلك حتى ضجر وطال المجلس، فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك قبل هذا، خذوه، اخلعوه، اسحبوه فأخذ وسحب ثم خلع، ثم قال المعتصم:
السياط. قال الإمام أحمد: وكان عندى شعرات من شعر النبى صلى الله عليه وسلم قد صررتها فى كم قميصى، فجاء بعض القوم إلى قمبصى ليحرقه، فقال المعتصم: لا تحرقوه وانزعوه عنه وإنما درىء عن القميص الحرق ببركة شعر النبى صلى الله عليه وسلم، وشدوا يديه فتخلعتا- ولم يزل أحمد يتوجع منهما حتى مات- ثم قال المعتصم للجلادين: تقدموا، ونظر إلى السياط فقال: ايتوا بغيرها، ثم قال لأحدهم:
أذمه (أى أسل دمه. من ذم أنفه وذن إذا سال) وأوجع، قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين ثم تنحى، ثم قال لآخر: أذمه وشد، قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين ثم تنحى، ولم يزل يدعو رجلا رجلا فيضربه كل واحد سوطين ويتنحى، ثم قام المعتصم وجاءه وهم محدقون به، وقال: يأحمد تقتل نفسك! أجبنى حتى أطلق غلك بيدى، وجعل بعضهم يقول له: يأحمد، إمامك على رأسك قائم فأجبه، وعجيف ينخسه بالسيف ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وبعضهم يقول: يأمير المؤمنين اجعل دمه فى عنقى، فرجع المعتصم إلى الكرسى، ثم قال للجلاذ: أذمه، قطع الله يدك، ثم جاء المعتصم إليه ثانيا وقال: يأحمد أجبنى، فقال كالأول. فرجع المعتصم وجلس على الكرسى، ثم قال للجلاد: شد عليه، قطع الله يدك، قال أحمد: فذهب عقلى، فما عقلت إلا وأنا فى حجرة مطلق عنى، كل ذلك وهو صائم لم يفطر، وكان ذلك فى العشر الأخيرة من رمضان سنة ٢٢٠ هـ، ثم وجه المعتصم رجلا ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، فما رأيت أشد ضربا من هذا ثم عالجه، وبقى أثر الضرب بينا فى ظهره إلى أن مات (سنة ٢٤١ هـ) - انظر تاريخ الطبرى ١٠: ٢٩٢ وتبيين كذب المفترى ص ٣٤٩، وحياة الحيوان الكبرى للدميرى ١: ١١٥ - ١١٧، ووفيات الأعيان ١: ١٧، ومروج الذهب ٢: ٣٤٨.
ولم يزل ابن حنبل بعد ضربه يحضر الجمعة والجماعات ويفتى ويحدث إلى أن مات المعتصم (سنة ٢٢٧ هـ)، وولى الواثق فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمد:
لا تجمعن إليك أحدا، ولا تساكنى فى بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفيا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها-

<<  <  ج: ص:  >  >>