للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأمّا اللعين بابك وكفرته، فإنهم كانوا يغزون أكثر مما يغزون، وينالون أكثر مما ينال منهم، ومنهم المنحرفون عن الموادعة، المتوحّشون عن المراسلة، ومن أديلوا (١) من تتابع الدول، ولم يخافوا عاقبة تدركهم، ولا دائرة (٢) تدور عليهم وكان مما وطّأ ذلك ومكنه لهم، أنهم قوم ابتدءوا أمرهم على حال تشاغل السلطان، وتتابع من الفتن، واضطراب من الحبل، فاستقبلوا أمرهم بعزّة من أنفسهم، وضعف واستئارة ممن باراهم، فأجلوا من حولهم لتخلص البلاد لهم، ثم أخربوا البلاد ليعزّ مطلبهم، وتشتدّ المؤنة، وتعظم الكلفة، ويقووا فى ذات أيديهم، فلم يتواف إليهم قوّاد السلطان إلا وقد توافت إليهم القوة من كل جانب، فاستفحل أمرهم، وعظمت شوكتهم، واشتدت ضروراتهم، واستجمع لهم كيدهم، وكثر عددهم واعتدادهم، وتمكّنت الهيبة فى صدور الناس منهم، وتحقّق فى نفوسهم أن كلّ ما يعدهم الكافر ويمنّيهم أخذ باليد، وكان الذى بقى عندهم منه كالذى مضى وبدون هذا ما يختدع الأريب، ويستنزل العاقل، ويعتقل الفطن، فكيف بمن لا فكرة له ولا روية عنده!

هذا مع كل ما يقوم فى قلوبهم من حسد أهل النعم، ومنافستهم على ما فى أيديهم، وتقطّعهم حسرات فى إثر ما خصّوا به، وأنهم إن لا يكونوا يرون أنفسهم أحقّ بذلك، فإنهم يرون أنهم فيه سواء.

ولم يزل أمير المؤمنين قبل أن تفضى إليه الخلافة، مادّا عنقه، موجّها همّته، إلى أن يولّيه الله أمر هؤلاء الكفرة، ويملّكه حربهم، ويجعله المقارع (٣) لهم عن دينه، والمناجز لهم عن حقه، فلم يكن يألوا (٤) فى ذلك حرصا وطلبا واحتيالا، فكان أمير المؤمنين- رضى الله عنه- يأبى ذلك لضنّه به، وصيانته بقربه،


(١) الإدالة: الغلبة، أداله الله من عدوه.
(٢) الدائرة: الهزيمة.
(٣) المقارعة: المناضلة.
(٤) ألا، يألو: قصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>