للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدا منهم سفّه حلم كعب على جوده بنفسه، بل جعلوا ذلك من كعب لإياد مفخرا، وجعلوا ذلك من حاتم طيّئ مأثرة لعدنان على قحطان، ثم للعرب على العجم، ثم لسكّان جزيرة العرب ولأهل تلك البرّيّة على سائر الجزائر والتّرب، فمن أراد أن يخالف ما وصف الله جلّ ذكره به نفسه، وما منح من ذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم، وما فطر على تفضيله العرب قاطبة، والأمم كافّة، لم يكن عندنا فيه إلا إكفاره واستسقاطه، ولم نر الأمة أبغضت جوادا قطّ ولا حقرته، بل أحبّته وأعظمته، بل أحبّت عقبه وأعظمت من أجله رهطه، ولا وجدناهم أبغضوا جوادا لمجاوزته حدّ الجود إلى السّرف ولا حقرته، بل وجدناهم يتعلمون مناقبه، ويتدارسون محاسنه، وحتى أضافوا إليه من نوادر الجميل (١) ما لم يفعله، ونحلوه (٢) من غرائب الكرم ما لم يكن يبلغه، ولذلك زعموا أن الثناء فى الدنيا يضاعف كما تضاعف الحسنات فى الآخرة، نعم وحتى أضافوا إليه كلّ مديح شارد، وكلّ معروف مجهول الصاحب. ثم وجدنا هؤلاء بأعيانهم (٣) للبخيل على ضد هذه الصّفة، وعلى خلاف هذا للذهب، وجدناهم يبغضونه مرة، ويحقرونه مرة، ويبغضون بفضل بغضه ولده، ويحتقرون بفضل احتقارهم له رهطه، ويضيفون إليه من نوادر اللؤم ما لم يبلغه، ومن غرائب البخل ما لم يفعله، وحتى ضاعفوا عليه من سوء الثناء بقدر ما ضاعفوا للجواد من حسن الثناء، وعلى أنّا لا نجد الجوائح (٤) إلى أموال الأسخياء


أمس، وارتحل القوم، وقالوا: يا كعب ارتحل، فلم يكن به قوة للنهوض، وكانوا قد قربوا من الماء، فقيل له: رد- كعب- إنك رواد، فعجز عن الجواب ومات عطشا، فقال أبوه مامة يرثيه:
أوفى على الماء كعب ثم قيل له ... رد كعب إنك وارد فما وردا
«مجمع الأمثال ١: ١٢٣» وقوله «ولم يكن الفرزدق ليضرب المثل» أى ليتشبه بكعب بن مامة- لأنه آثر هو أيضا العنبرى على نفسه- وفى الكلام حذف، والتقدير: لم يكن ليفعل ذلك إلا لبلوغه الغاية فى كرم النفوس.
(١) أى الفعل الجميل.
(٢) نحلوه: نسبوا إليه.
(٣) فى النسخ «بأنعاتهم».
(٤) جمع جائحة: وهى الآفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>