للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما نجد البخيل يفرّ من اسم البخل إلى الاقتصاد، ونجد الشجاع يفرّ من اسم المهزم، والمستحى يفرّ من اسم الخجل، ولو قيل لخطيب ثابت الجنان «وقاح (١)» لجزع فلو لم يكن من فضيلة الجود إلا أن جميع المتجاوزين لحدود أصناف الخير يكرهون اسم تلك الفضلة (٢) إلا الجواد، لقد كان فى ذلك ما يبين قدره، ويظهر فضله، المال فاتن، والنفس راغبة، والأموال ممنوعة، وهى (٣) على ما منعت حريصة، وللنفوس فى المكائرة علّة معروفة، لأن من لا فكرة له ولا روية، موكّل (٤) بتعظيم ذى الثروة، وإن لم تكن منه منالة (٥)، وقد قال الأول:

وزادها كلفا بالحبّ أن منعت ... وحبّ شىء إلى الإنسان ما منعا

وفى بعض كتب الفرس: كلّ عزيز تحت القدرة فهو ذليل.

وقالت معاذة العدوية: كل مقدور عليه فمقلىّ (٦) أو محقور، ولو كانوا لأولادهم يجمعون، ولهم يكدّون، ومن أجلهم يحرصون، لجعلوا لهم كثيرا مما يطلبون، ولتركوا محاسبتهم فى كثير مما يشتهون، وهذا بعض ما بغّض بعض المورّثين إلى الوارثين، وزهّد الأخلاف (٧) فى طول عمر الأسلاف، ولو كانوا لأولادهم يمهّدون،


- فى طبع البلاد وفى جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حبوانهم، فحدثت بهذا الحديث أحمد ابن رشيد فقال:
كنت عند شيخ من أهل مرو، وصبى له صغير يلعب بين يديه، فقلت له- إما عابئا وإما ممتحنا-: أطعمنى من خبزكم، قال: لا تريده، هو مر، فقلت: فاسقنى من مائكم، قال: لا تريده، هو مالح، قلت: هات من كذا وكذا، قال: لا تريده هو كذا وكذا، إلى أن عددت أصنافا كثيرة، كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إلى، فضحك أبوه، وقال: ما ذنبنا، هذا من علمه ما تسمع؟ يعنى أن البخل طبع فيهم وفى أعراقهم وطينتهم ... ».
(١) الرجل الصلب الذى قل حياؤه.
(٢) أى الزيادة فى الفضيلة وتجاوز الحد فيها.
(٣) أى النفس.
(٤) أى جاعل تعظيم ذى الثروة من شغله كأنه مولع به مفتون.
(٥) النال والمنالة والمنال مصدر نلت أنال، ويقال: نلت له بشىء أى جدت.
(٦) قلاه يقليه قلى وقلاء، ويقلاه لغة طيء: أبغضه غاية البغض، قال ابن السكيت ولا يكون فى البغض إلا قليت، وفى النسخ «فمقلو».
(٧) أخلاف جمع خلف بالتحريك: وهم أبناء الإنسان الذين يخلفونه بعد موته.

<<  <  ج: ص:  >  >>