للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صلى الله عليه وسلم: «لا خلابة (١)» واحذر احتمال مديحهم، فإن محتمل المديح فى وجهه كمادح نفسه.

إنّ مالك لا يسع مريديه، ولا يبلغ رضا طالبيه، ولو أرضيتهم بإسخاط مثلهم لكان ذلك خسرانا مبينا، فكيف ومن يسخط أضعاف من يرضى؟ وهجاء الساخط أضرّ من فقد مديح الراضى، وعلى أنهم إذا اعتوروك بمشاقصهم (٢)، وتداولوك بسهامهم، لم تر ممن أرضيته بإسخاطهم أحدا يناضل عنك. ولا يهاجى شاعرا دونك، بل يخلّيك غرضا لسهامهم، ودريئة (٣) لنبالهم، ثم يقول: وما كان عليه لو أرضاهم! فكيف يرضيهم، ورضا الجميع شىء لا ينال؟ وقد قال الأول: وكيف يتّفق لك رضا المختلفين؟ وقالوا: منع الجميع أرضى للجميع، إنى أحذّرك مصارع المخدوعين، وأرفعك عن مضاجع المغبونين، ولست (٤) كمن لم يزل يقاسى تعذّر الأمور، ويتجرّع مرارة العيش، ويتحمل ثقل الكدّ، ويشرب بكأس الذل، حتى يكاد يمرن على ذلك جلده، ويسكن عليه قلبه، وفقر مثلك مضاعف الألم، وجزع من لم يعرف الألم أشدّ، ومن لم يزل فقيرا فهو لا يعرف الشامتين، ولا يدخله المكروه من سرور الحاسدين، ولا يلام على فقره، ولا يصير موعظة لغيره، وحديثا يبقى ذكره، ويلعنه بعد الممات ولده.

ودعنى من حكايات (٥) المستأكلين، ورقى الخادعين، فما زال الناس يحفظون أموالهم من مواقع السّرف، وبجنّبونها وجوه التبذير، ودعنى مما لا نراه إلا فى الأشعار المتكلّفة، والأخبار المولّدة، والكتب الموضوعة، فقد قال بعض أهل زماننا: ذهبت المكارم إلا من الكتب.


(١) الخلابة: الخداع، وفى الحديث «إذا بايعت فقل: لا خلابة».
(٢) المشاقص: جمع مشقص كمنبر، وهو النصل العريض.
(٣) ما يستتر به.
(٤) فى النسخ إنك كمن الخ وهو غير مناسب لسياق المعنى. لأنه يريد أن يقول: إنك لم تعتد الفقر حتى يكون ألمه خفيفا، وفقر مثلك بعد الغنى يكون مضاعف الآلام شديد الوقع.
(٥) أى ما يخترعونه من حكايات مكذوبة فى الكرم الذى تجاوز الحد لخداع ضعفاء العقول.
(٧ - جمهرة رسائل العرب- رابع)

<<  <  ج: ص:  >  >>