للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من هذا البلاء؟ على أن الثناء طعم (١)، ولعلّك ألّا تطعمه (٢)، والحمد أرزاق ولعلك ألّا تجرمه، وما يضيع من إحسان الناس أكثر (٣).

وعلى أن الحفظ (٤) قد ذهب بموت أهله، ألا ترى أن الشّعر لمّا كسد أفحم أهله، ولمّا دخل النقص على كل شىء أخذ الشعر منه بنصيبه؟ ولمّا تحولت الدولة فى العجم- والعجم لا تحوط الأنساب، ولا تحفظ المقامات، لأن من كان فى الرّيف (٥) والكفاية، وكان مغمورا بسكر الغنى، كثر نسيانه، وقلّت خواطره، ومن احتاج تحركت همته، وكثر تنقيره (٦)، وعيب الغنى أنه يورّث البلادة، وفضيلة الفقر أنه يبعث الفكر، وإن أنت صحبت الغنى بإهمال النفس أسكرك الغنى، وسكر الغنى سبّة المستأكلين، ونهزة الخدّاعين، وإن كنت لا ترضى بحظّ النائم، وبعيش البهائم، وأحببت أن تجمع مع تمام نفس المثرى، ومع عز الغنى وسرور القدرة، فطنة المخفّ، وخواطر المقلّ، ومعرفة الهارب، واستدلال الطالب، اقتصدت فى الإنفاق، وكنت معدّا للحدثان، ومحترسا من كل خدّاع.

لست تبلغ حيل لصوص النهار، وحيل سرّاق الليل، وحيل طرّاق البلدان، وحيل أصحاب الكيمياء، وحيل التجّار فى الأسواق، والصّنّاع فى جميع الصناعات، وحيل أصحاب الحروب، وحيل المستأكلين والمتكسّبين، ولو جمعت الخبر (٧) والسّحر والتمائم (٨) والسم، لكانت حيلهم فى الناس أشد تغلغلا، وأعرض وأسرى فى عمق


(١) جمع طعمة: وهى المأكلة.
(٢) أى إن جدت وأسرفت» وقوله «ألا تحرمه» أى إن بخلت وأمسكت، وربما كان الأصل «أن تطعمه» على تقدير «إن بخلت» كما هو التقدير فى الثانى.
(٣) أى أن الضائع من أخبار الإحسان أكثر مما يبقى منها، فلا تغتر بأن الإحسان يبقى لك حسن الذكر فإنه عرضة للنسيان.
(٤) أى حفظ الجميل والمعروف أو حفظ أخبار الكرماء.
(٥) الريف: الأرض فيها زرع وخصب.
(٦) أى بحثه عن الأنساب ومنازل الرجال وأخبار الناس ويامهم ليتخذ من ذلك بضاعة للمديح.
(٧) الخبر: تمام المعرفة.
(٨) التمائم: جمع تميمة، وهى خرزة أو نحوها يعلقها الأعراب على أولادهم لدفع الشر.

<<  <  ج: ص:  >  >>