للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البدن، وأدخل إلى سويداء القلب وإلى أمّ الدّماغ، وإلى صميم الكبد، ولهى أدقّ مسلكا، وأبعد غاية من العرق (١) السّارى، والشّبه النازع (٢)، ولو اتّخذت الحيطان الرفيعة الثخينة، والأقفال المحكمة الوثيقة، ولو اتّخذت الممارق (٣) والجواسق (٤) والأبواب الشّداد، والحرس المتناوبين بأغلظ المؤن، وأشدّ الكلف، وتركت التقدم فيما هو أحضر ضررا (٥)، وأدوم شرا، ولا غرم عليك فى الحراسة فيه، ولا مشقة عليك فى التحفظ منه (٦)، إنك إن فتحت لهم على نفسك مثل سمّ الخياط جعلوا فيه طريقا نهجا، ولقى (٧) رحبا، فأحكم بابك، ثم أدم (٨) إصفاقه، بل أدم إغلاقه، فهو أولى بك، وإن قدرت على مصمت (٩) لا حيلة فيه فذلك أشبه بحزمك، ولو جعلت الباب مبهما، والقفل مصمتا، لتسوّروا عليك من فوقك، ولو رفعت سمكه إلى العيّوق (١٠) لنقبوا عليك من تحتك، قال أبو الدّرداء:

«نعم صومعة المؤمن بيته» وقال ابن سيرين: «العزلة عبادة».

وحلاوة حديثهم (١١) تدعو إلى الاستكثار منهم، وتدعو إلى إحضار (١٢) غرائب شهواتهم، فمن ذلك قول بعضهم لبعض أصحابه: «كل رخلة (١٣) واشرب مشعلا (١٤)،


(١) العرق: جذر النبات.
(٢) أى شبه الأبناء بآبائهم وأجدادهم، فإن الشبه قد يسرى إلى غاية بعيدة فى النسب.
(٣) الممارق: جمع ممرق بالفتح، هو هنا المكان الخفى للفرار.
(٤) جمع جوسق بالفتح: وهو القصر.
(٥) هو حيل المستأكلين وتملق المجتدين.
(٦) جواب لو اتخذت الممارق محذوف يدل عليه ما قبله: أى لكانت حيلهم أشد.
(٧) اللقى فى الأصل: اللقاء، والمراد به هنا مكان اللقاء.
(٨) إصفاق الباب: رده بعد أن كان مفتوحا.
(٩) المصمت والمبهم: الباب أو القفل لا يهتدى إلى طريقة فتحه إلا صاحبه.
(١٠) العيوق: نجم أحمر مضىء فى طرف المجرة الأيمن يتلو التريا.
(١١) أى حديث المستأكلين والمتكسبين.
(١٢) أحضر الفرس: عدا، وإحضار غرائب الشهوات: تسابقها فى الظهور.
(١٣) الرخلة: الأنثى من أولاد الضأن.
(١٤) المشعل: شىء يتخذه أهل البادية من جلود يخرز بعضها إلى بعض، ثم يشد إلى أربع قوائم من خشب فيصير كالحوض ينبذ فيه، يقول: اشرب قدر ما فى مشعل من نبيذ.

<<  <  ج: ص:  >  >>