للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما صدور السّلف فإنما كانت من فلان بن فلان إلى فلان، كذلك جرت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلاء بن الحضرمىّ، وإلى أقيال اليمن، وإلى كسرى وقيصر، وكتب أصحابه والتابعين كذلك، حتى استخلص الكتّاب هذه المحدثات من بدائع الصدور، واستنبطوا لطيف الكلام، ورتّبوا لكلّ رتبة، وجروا على تلك السّنّة الماضية إلى عصرنا هذا فى كتب الخلفاء والأمراء، وثبتوا على ذلك المنهاج فى كتب الفتوحات والأمانات والسّجلّات.

ولكل مكتوب إليه قدر ووزن ينبغى للكاتب أن لا يتجاوز به عنه، ولا يقصّر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأحوص (١) حين خاطب الملوك بمخاطبة العوامّ فى قوله:

وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم ... مذق الحديث، يقول ما لا يفعل (٢)

فهذا معنى صحيح فى المدح، ولكنهم أجلّوا أقدار الملوك أن يمدحوا بما يمدح به العوامّ، لأن صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان مدحا، فهو واجب على كلّ، والملوك لا يمدحون بالفروض الواجبة، وإنما يحسن مدحهم بالنوافل (٣)، لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزنى بحليلة (٤) جارك، وإنك لا تخون ما استودعت، وإنك تصدق فى وعدك، وتفى بعهدك، كان قد أثنى بما يجب، ولكنه لم يصل بثنائه إلى مقصد، وقال ما لا يستحسن مثله فى الملوك.

ونحن نعلم أن كل أمير تولّى من أمور المؤمنين شيئا فهو أمير المؤمنين، غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا للخلفاء خاصّة، ونعلم أن الكيس هو العقل إذا عنوا به ضدّ الحمق (٥)، ولكنك لو وصفت رجلا فقلت: «إن فلانا لعاقل»


(١) شاعر أموى من أهل المدينة توفى سنة ١٠٥ - انظر ترجمته فى الأغانى ٤: ٤٠، والشعر والشعراء ص ٢٠٤.
(٢) مذق اللبن كنصر مذقا فهو ممذوق ومذيق ومذق كفرح: خلطه بالماء، ومنه قيل: فلان يمذق الود: إذا لم يخلصه.
(٣) النوافل، جمع نافلة، وهى ما تفعله مما لم يجب.
(٤) الحليلة: الزوجة.
(٥) وله معان أخر، وهى: الجود والطيب والجماع والغلبة بالكياسة.

<<  <  ج: ص:  >  >>