للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدنك فى ابتغائها، واصرف عنانك عنها، ولا تطمع فيها باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر لك، ولا مجد عليك، ومن كان مرجعه فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدّمه، والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلّة غيره، ولم يكن معه أداة تولّد له من بنات قلبه، ونتائج ذهنه الكلام الحرّ، والمعنى الجزل، لم يكن من الصناعة فى عير ولا نفير (١)، على أن كلام العظماء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين على كل حال مما يفتق اللسان، ويوسّع المنطق، ويشحذ الطبع، ويستثير كوامنه إن كانت فيه سجيّة، قال العتّابى: «ما رأينا فيما تصرفنا فيه من فنون العلم، وجرينا فيه من صنوف الآداب، شيئا أصعب مراما، ولا أوعر مسلكا ولا أدلّ على نقص الرجال ورجاحتهم، وأصالة الرأى وحسن التمييز منه واختياره، من الصناعة التى خطبتها، والمعنى الذى طلبته» وليس شىء أصعب من اختيار الألفاظ وقصدك بها إلى موضعها؛ لأن اللفظة تكون أخت اللفظة وقسيمتها فى الفصاحة والحسن ولا تحسن فى مكان غيرها. وبتمييز هذه المعانى، ومناسبة طبائع جهابذتها (٢)، ومشاكلة أرواحهم، جعلوا الكتابة نسبا وقرابة، وأوجبوا على أهلها حفظها.

قال الحسن بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت فى أبدان متفرقة، ومن لم يعرف فضلها وجهل أهلها، وتعدّى بهم رتبتهم التى وصفهم الله بها (٣)، فإنه ليس من الإنسانية فى شىء.

وقالت البرامكة: رسائل المرء فى كتبه دليل على عقله، وشاهد على غيبه.

وقال الشاعر:

وتنكر ودّ المرء فى لحظ عينه ... وتعرف عقل المرء حين تكاتبه


(١) من أمثال العرب: «لا فى العير ولا فى النفير» مثل يضرب للرجل يحط أمره، ويصغر قدره، وقد تقدم شرحه فى جمهرة خطب العرب ٢: ١٣٧.
(٢) جهابذة: جمع جهيذ، بكسر الجيم والباء وهو النقاد الخبير.
(٣) يشير إلى قوله تعالى: «كِراماً كاتِبِينَ».

<<  <  ج: ص:  >  >>