للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويسىء بالإحسان ظنّا، لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون

ولكن اعرضه على البلغاء والشعراء والخطباء ممزوجا بغيره، فإن أصغوا إليه، وأذنوا (١) له، وشخصوا بالأبصار، واستعادوه وطلبوه منك وامتزج، فاكشف من تلك الرسالة والخطبة والشعر اسمه، وانسبه إلى نفسك، وإن رأيت عنه العيون منصرفة، والقلوب عنه ذاهبة (٢)، فاستدلّ به على تخلفك عن الصناعة، وتقاصرك عنها، واسترب رأيك عند رأى غيرك من أهل الأدب والبلاغة، فقد بلغنى أن بعض الملوك دعا إنسانا إلى مؤانسته، حتى ارتفعت الحشمة بينهما، فأخرج له كتابا قد غشّاه بالجلود، وجمع أطرافه بالإبريسم (٣)، وسوّى ورقه، وزخرف كتابته، وجعل يقرأ عليه كلاما قد حبّره (٤) فيه، ونمّقه عند نفسه، وجعل يستحسن ما لا يحسن، ويقف على ما لا يستثقل قراءته، حتى أتى على الكتاب، فقال له: كيف رأيت ما قرأت عليك؟ فقال: أرى عقل صانع هذا الكلام أكثر من كلامه، ففطن له ولم يعاوده، إلى أن وقف به على تنّور مسجور (٥)، ثم قذف بالكتاب فى النار، وهذا رجل فى عقله فضلة، وفيه تمييز.

وإنما البليّة فيمن إذا بيّنت له سوء نظمه واختياره، ووقفته على سخافة لفظه، هجرك وعاداك، فاجعل هذا الأصل ميزانا تزن به مذهبك فى رسائلك وبلاغتك، ولا تخاطبنّ خاصّا بكلام عام، ولا عامّا بكلام خاصّ، فمتى خاطبت أحدا بغير ما يشاكله، فقد أجريت الكلام غير مجراه، وكشفته، وقصدك بالكلام الشريف للرجل الشريف تنبيه لقدر كلامك، ورفع لدرجته، قال:

فلم أمدحه تفخيما لشعرى ... ولكنى مدحت بك المديحا


(١) أذن إليه وله كفرح: استمع معجبا، أو عام.
(٢) فى الأصل «واهية».
(٣) الإبريسم: الحرير.
(٤) التحبير: التحسين.
(٥) التنور: الذى يخبز فيه- الفرن- وسجر التنور: أحماه.

<<  <  ج: ص:  >  >>