للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلا تخرجنّ كلمة حتى تزنها بميزانها، فتعرف تمامها ونظامها، ومواردها ومصادرها، وتجنّب ما قدرت الألفاظ الوحشية، وارتفع عن الألفاظ السّخيفة، واقتضب كلاما بين الكلامين.

قال الجاحظ: «ما رأيت قوما أمثل طريقة فى البلاغة من هؤلاء الكتّاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعّرا وحشيّا، ولا ساقطا سوقيّا». وقال خالد ابن صفوان: «أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى كلام، وأحسنه ما لم يكن بالبدوى المغرب ولا القروىّ المخدج (١)، الذى صحّت مبانيه، وحسنت معانيه، ودار على ألسن القائلين، وخفّ على آذان السامعين، ويزداد حسنا على ممرّ السنين، بتجلية الرّواة، وتنقية السّراة».

والكاتب المستحق اسم الكتابة، والبليغ المحكوم له بالبلاغة، من إذا حاول صيغة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت من معادنها، وندرت (٢) من مواطنها، عن غير استكراه ولا اغتصاب.

حدّثنا صديق للعتّابى قال له: اعمل لى رسالة، فاستمدّه مدّة بعد أخرى، فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة عنك، فقال له العتابىّ: إنى لمّا تناولت القلم تداعت علىّ المعانى من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى يرجع إلى موضعه، ثم أجتنى لك أحسنها.

وأملى يزيد بن عبد الله أخو ذبيان (٣) على كاتب له، فأعجل الكاتب، ودارك فى الإملاء عليه (٤)، فتعثّر قلم الكاتب عن تقييد إملائه، فقال له متحرّشا: اكتب


(١) الإعراب: الإتيان بالغريب، والمعنى المغرب صاحبه. والمخدج: الناقص، من قولهم:
أخدجت الناقة: أى جاءت بولد ناقص فهى مخدج (بكسر الدال) والولد مخدج (بفتحها)، ورجل مخدج اليد: ناقصها.
(٢) أى ظهرت، ندر الشىء ندورا: سقط من جوف شىء، أو من بين أشياء فظهر، وربما كان «بدرت» أى سبقت وعجلت، وفى رسائل البلغاء «وتدرب» وهو تصحيف.
(٣) فى رسائل البلغاء «أخو دينار» وهو تحريف.
(٤) وفى رسائل البلغاء: «وأعجل عليه الإملال» وأمل عليه الكتاب بمعنى أملى.

<<  <  ج: ص:  >  >>