للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا حمار، فقال له الكاتب: أصلح الله الأمير، إنه لما هطلت شآبيب (١) الكلام، وتدافعت سيوله على حرف القلم، كلّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده، فليتذكر الأمير عذرى، فكان حضور جواب الكاتب أبلغ من بلاغة يزيد.

وقال له يوما وقد نطّ حرفا فى غير موضعه: ما هذا؟ قال: طغيان فى القلم.

وكلما احلولى الكلام وعذب ورقّ وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا فى الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخفّ على الأهواء، ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق (٢) شريف، ومعبّرا بكلام مؤلّف رشيق، لم يشنه التكلّف بميسمه (٣)، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه، كقول ابن أبى كريمة:

قفاه وجه حسن، والذى ... قفاه وجه يشبه الشمسا

فهجّن المعنى بتوعّر مخارج الحروف، وأخذه الحسن بن هانئ فسهّله وقال:

«بذّ (٤) حسن الوجوه حسن قفاكا» وكلاهما من حسّان حيث يقول:

قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر (٥)

وانظر إلى سلاسة الحسن بن سهل حيث قال:

شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شكّ فيك السهل والجبل

وكتب عيسى بن لهيعة كتابا إلى أخيه أبى الحسن، فعقّد كلامه، وجاز المقدار فى التّنطع، فوقّع فى أسفل كتابه:


(١) شآبيب: جمع شؤبوب كعصفور، وهى الدفعة من المطر.
(٢) أى معجب.
(٣) وسمه: أثر فيه بسمة، أى علامة، والميسم: الآلة التى يوسم بها.
(٤) بذ: فاق.
(٥) القفا قد يمد كما فى هذا البيت، والعرب تؤنثه، والتذكير أعم. وكان حسان بن ثابت زار الحرث ابن أبى شمر الغسانى- وكان النعمان بن المنذر يساميه- فقال الحرث لحسان: لقد نبئت أنك تفضل النعمان على، فقال: وكيف أفضله عليك؟ فو الله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمك أشرف من أبيه، فى كلام كثير، فقال له: هذا لا يسمع إلا فى شعر، فنظمه فى أبيات منها هذا البيت- انظر ديوان حسان ص ١٨٢ ومروج الذهب ١: ٢٩٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>