للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القرّ (١)، وأخذ منى السّفر، حتى وصلت، فلما وردته، أدخلت عليه فى يوم ما يحظر (٢) فيه الخلق، وعلىّ شحوب مضنى، وقد توسّط خدمه من نواحيه، وتدثّر بمطرف (٣) خزّ أدكن، ولاث (٤) به الناس من بين قائم وقاعد، فلما نظر إلىّ- وكان لى عارفا- قعد ثم تبسّم تبسّم الوجل، ثم قال: أهلا بك يا نباتة، أهلا بمولى أمير المؤمنين، لقد أثر فيك سفرك، وأعرف أمير المؤمنين بك ضنينا، فليت شعرى ما دهمك أو دهمنى عنده؟ قال: فسلّمت وقعدت، فسأل: ما حال أمير المؤمنين وخوله (٥)؟ ، فلما هدأ أخرجت له الكتاب فناولته إياه، فأخذه منى مسرعا، ويده ترعد، ثم نظر فى وجوه الناس فما شعرت إلا وأنا معه، ليس معنا ثالث، وصار كل من يطيف به من خدمه يلقاه خاليا، لا يسمعون منا إلا الصوت، ففكّ الكتاب فقرأه، وجعل يتثاءب ويردّد تثاؤبه، ويسيل العرق على جبينه وصدغيه- على شدة البرد- من تحت قلنسوته من شدة العرق، وعلى رأسه عمامة خزّ خضراء، وجعل يشخص إلىّ ببصره ساعة كالمتوهّم، ثم يعود إلى قراءة الكتاب، ويلاحظنى النظر كالمتفهّم إلا أنه واجم (٦)، ثم يعاود الكتاب، وإنى لأقول. ما أراه يثبت حروفه من شدة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته، ثم مالت يده حتى وقع الكتاب على الفراش، ورجع إليه ذهنه، فمسح العرق عن جبينه، ثم قال متمثلا:

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع (٧)

قبح والله منا الحسن يا نباتة! وتواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن، وما هذا


(١) القر مثلث القاف: البرد.
(٢) أى ما يمنع، وفى الأصل «يخطر» وأراه مصحفا.
(٣) تدثر بالثوب: اشتمل به، والمطرف: رداء من خز مربع ذو أعلام. وأدكن: وصف من الدكنة كحمرة: وهى لون إلى السواد.
(٤) أى التفوا واستداروا
(٥) الخول: الخدم والحشم
(٦) الواجم: العبوس المطرق لشدة الحزن، وجم كوعد وجما ووجوما: سكت على غيظ.
(٧) التميمة: العوذة تعلق على الإنسان.

<<  <  ج: ص:  >  >>