تكليف العالم الجهل من باب تكليف مالا يقدر عليه، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً.
كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه، فمن كان الله قد أنعم عليه بالإيمان وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه كيف يؤمر بما يناقض إيمانه ومعرفته.
والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ.
والشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله، لكن مجرد معرفة الله تعالى لا يصير بها الإنسان مؤمناً وإن كان يعلم أنه رب كل شيء فلابد للإيمان من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله تعَالى. قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: ٥٦) . فالعبادة هي الغاية المقصودة من الخلق التي أرادها الله منهم بأمره وشرعه، وبها يحصل محبوبه تعالى، وتحصل سعادتهم ونجاتهم، وهذا لا يخالف كون كثير منهم لم يعبده؛ لأن الله تعالى لم يجعلهم عابدين له، لما في ذلك من تفويت محبوبات له أخرى، هي أحب إليه من عبادة أولئك, وحصول مفاسد أخرى هي أبغض من معصيتهم كما قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(هود: ١١٩) . فهو تعالى أراد بخلقهم ما هم صائرون إليه من الرحمة, والاختلاف إرادة كونية قدرية، ففي قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . ذكر الغاية لتي أمروا بها، وفى قوله تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ذكر الغاية التي يصيرون إليها، وكلاهما مرادة له تعالى تلك مرادة بأمره وشرعه، والموجود منها مراد بخلقه وأمره، والأخرى مرادة بخلقه، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره، وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى:{إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}