ثم عرف الفُرس من أمر العَرب أنهم جادّون، وأنهم في غزوتهم ليسوا طلاب إغارة للتزوّد بزاد أو التبلّغ بمقام؛ فقد وضعوا أيديهم على الكثير من سواد العراق، وهم وإن تريّثوا في الغزو فليس ذلك عن ضعف أو بلوغ غاية، ولكنهم يروون رأيهم ويجمعون جموعهم ويتلمسون نبأ أعدائهم، وقد قابل الفرس نبأ غزو العرب باستخفاف المتكبّر وسخرية المستخفّ، فما كان للعرب في ماضيهم دولة ولا كان لهم في حياتهم هدف، بل كان أمرهم مضيّعا مع هوى الفرس تارة وهوى الروم أخرى، وإنهم راضون من حياتهم بانتجاع الكلأ وتلمّس المرعى والرضا بالكفاف وتوسّد الخيال الشعريّ المهدهد على الأمل والمروّض على الحبّ؛ فما بالهم يغِيرون ولا يخافون، ويغزون ولا يتردّدون، ويقيمون ولا يرجعون، ثم تبلغ بهم الجرأة أن يطلعوا النّزال وأن يراجعوا الرأي.
وهل في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ما يحي الموات وينبت الأجادب، ويجمع الشتات ويوحّد الرأي، ويقضي على الهوى ويحدّد الأهداف، ويستخفّ بالملك العريض والجاه الواسع، وما كان لأهله من ملك ولا لجماعته من تاريخ؟ !.
نعم راجع الفرس الرأي فيما بينهم، ثم استقرّ أمرهم على لقاء العرب على كره، ونزالهم على هون؛ فجمعوا الجموع القاضية والجيوش الساحقة؛ حتى يبيدوا من العرب الجمع القليل، ويقضوا على الأمل العريض، ثم يتّبعونهم في ديارهم؛ ليبدّدوا منهم الأحلام ويفرقوا منهم الكلمة، ويعيدوهم إلى سيرتهم الأولى من انتجاع الكلأ وتلمّس المرعى واستجداء ذوي الثراء، والميل مع الأهواء.