تثير قضية "الحداثة في الأدب"في أيامنا هذه ضجة كبيرة وتشتعل المعارك حولها بضراوة، ويستخدم المتخاصمون فيها منابر مختلفة، كقاعات الجامعات والكتب، وأعمدة الصحف والمجلات، والأشرطة الصوتية ذات الانتشار المذهل، وتتخذ هذه القضية ميدانين رئيسين لمعاركها هما: ميدان الشعر، بأنواعه كلها: الخليلي والتفعيلي، والغنائي والتمثيلي، وميدان النقد: الأدبي وغير الأدبي، والموضوعي والمتعسف، بينما تغيب أو تكاد عن القصة والمسرحية النثريتين.
ومن المعروف أن الشعر والنقد ميدانان عريقان لمعركة الحداثة، فمنذ العصر العباسي الأول شهد الشعر محاولات لتغيير بعض أعرافه وقواعده، بدأها بشار بن برد، واشتدت على يد شعراء آخرين كابن هرمة ومسلم بن الوليد والحسن بن هانئ، وبلغت ذروتها على يد أبي تمام، وقد سمّى النقاد شعر هؤلاء "شعر المحدثين"، ومن أهم ما جاء به: الصياغة المتقنة التي توائم بين العناصر الفكرية والعناصر الفنية. فالأدوات البديعية: من جناس وطباق ومشاكلة، تمتزج بالفكرة الفلسفية وتخدمها، والاستعارة تأخذ أطرافاً من المنطق، والقواعد الفلسفية تؤثر على الصورة الفنية، وعلى لغة القصيدة، وتجعل اللون العقلي أقوى من اللون العاطفي. وهذا الضرب من "الصناعة الفنية"لم يألفه الشعر العربي من قبل.
وأما موسيقى الشعر، فلم يلحقها تغيير كبير، وظلت تعتمد على الأوزان المعهودة والقافية، وظهرت تنويعات محدودة تتمثل في المسمطات والمزدوجات والمخمسات، ولكنها لم تلق تشجيع النقاد، حتى أن ابن رشيق عدّها مظهرا من مظاهر ضعف الشاعر [١] . وعندما شاعت في وقت متأخر لم تحدث سوى تلوين محدود في التنغيم الأساسي لموسيقى الشعر