أنت الذي لا أكنيك في مطلع هذه الرسالة ولا أسميك، ولا ألقبك ولا أناديك، فأنا أخشى على قارئي أن يروع قلبه بذكرك، وأن يزلزل جسمه باسمك فيلقى بهذه المجلة جانبا ثم هيهات أن يعود.
أنت لست سيفا صقيلا ولا رمحا طويلا، لست رصاصا يدمدم ويئز ولا قنابل تدمر وتهز، لست زلزالا يطيح بالجبال ويفجر البراكين ويبتلع القرى والمدن، ولا إعصارا يطوي ما حملت فوق ظهورها المحيطات، وينسف ما ازدانت به شواطئ وشواطئ ولا وباء يترك الناس هشيما وترابا. ومع ذلك فكل أولئك -أيها الموت- بعض جندك، وجزء صغير من مملكتك.
لقد أرسلك الله - أيها الموت - نعمة من للعالمين ونقمة، فما أحلاك حينا وما أمرك أحيانا، ما أحلاك حين تدك الظلم وتدق أعناق الظالمين، وما أمرك حين تدرك أحباء مقربين وحكاما مصلحين وعلماء كانوا مصابيح هدى ومعالم إرشاد.
لا أدري أيها الموت لماذا أذكرك كثيرا هذه الأيام ولا أكاد أنساك أتراني أصبحت قريبا من أجلي، أم أن مصارع المسلمين المنبثة على كل أرض، ودماءهم السائلة هدرا في كل واد – جعلتك حيا في قلبي لا تنسى، شاخصا أمام عيني لا تحتجب؟!
ومهما يكن من أمر فأرجو أيها الموت ألا يطوف بخلدك أني أكتب إليك هذه الرسالة خوفا وطمعا أو تملقا وزلفى، فأنا أعلم أن ليس لك من الأمر شيء، وأن الأمر كله بيد الله يصرفه كيف يشاء.
على أن الحياة في هذه السنوات العجاف قد أمست خاوية عجفاء، ليست خليقة بأن يتملق في سبيلها ويتزلف، فهي لا تعدو ليلا يقبل ويدبر، وشمسا تشرق وتغرب، وأطعمة مأدومة بالقلق، وأشربة مر نقة بالخوف والضياع.