عندما يقع بصرنا على شيء يسترعى الانتباه نلاحظ أنه يترك صورته ماثلة في خيالنا بعض الوقت، وأكثر ما يكون ذلك حين نغلق أعيننا عقب رؤيته فإذا هو منطبع على خلفية البصر بكل ما يميزه إلا تفصيلات الملامح. على أن بعض هذه المرئيات طويلة الأجل، فلا تكاد تفارق الذاكرة إلا ريثما تعود.؟. ومن أبرزها في أعماق نفسي صورة ذلك الكهل الأروادي التي ما زالت مخيلتي تحتفظ بها منذ خمس وستين سنة في وضوح يباين ما يتركه غيرها من الصورة العابرة.
ها أنا ذا أنظر إليه من خلال ركام الذكريات، وأوشك أن أميز كل ظاهرة في هيكله الضئيل الذي ما أحسبه يتجاوز صورة ابن الرومي، الذي يحدد حجم شخصه بقوله:
أنا من خفّ واستدقَّ فما يُثقل
أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء
وقد عُبِئ هذا الهيكل في سروال صغير متوسط السعة، أحاط أعلاه بأسفل قميص متواضع من أرخص الأقمشة، وبرز فوقه ذلك الوجه الأسمر المنمنم، الذي استقرت عليه سمة غامضة يضيع تحديدها بين العبوس والابتسام، وتُطل من خلالها عينان لطيفتان لا أستطيع تحديد رؤيتهما لأنه قلما يوجههما إلى أحد من الناس.. حتى اسمه لا يخلص من ذلك الغموض، فهو في علمنا نحن الصغار على الأقل يوسف، أما من أمه وأبوه وأسرته فوراء مدركاتنا المحدودة. وما أحسب أحداً حتى من الكبار يُلِمُّ من تعريفه بغير هذا الاسم، ولا من هُويته بغير تلك الصفة المشتقة من صناعته اليومية (الكعَّاك) .
* كان المنزل الذي يسكنه أشبه بغار صغير مستطيل لا يتخلله الضوء إلا من مدخله الذي لا يتسع لأكثر من اثنين بمثل حجمه، ففيه يبيت ويأكل ويصنع الكعك، الذي يطوف به أسواقَ طرطوس وأزقتها عصر كل يومٍ وهو ينادي بصوته الأجش الهزيل.