ولقد ألفت منظر ذلك الكهل الأروادي إذ لا أكاد أفقد رؤيته في أي يوم، فإذا غدوت إلى حانوت والدي أو رحت منه إلى البيت، عبرت به فأقف قليلا مقابل مدخله أتطلع إلى يديه وهما تمارسان عمل الكعك، وبنفسي رغبة في أن أسرق هذه الصنعة لأعلمها والدتي، التي كانت قليلة الخبرة بصناعة الطعام، وبخاصة المشوقات التي لا تعرف منها سوى رصف الحمص على وجه العجين المرسل إلى المخبز، حيث تُغير النار من طعمه فتجعله أقرب القضامة، وكانت تلك هي المكافأة المغرية التي تُحبِب إلي حمل أقراص الخبز إلى الفرن، لآخذ بحظي منها في كل نوبة.؟.
وكان لهدوء ذلك الكهل الأروادي أثره في تطلعي إلى عمله، إذ قلما يضيق صدره بمشهد الصغار أمام مصنعه فلا ينفرهم كما يفعل أكثر الرجال الآخرين، وبخاصة ذلك النجار الأخرس الذي ما أن يكاد يرى إنساناً يحك رأسه حتى يثب نحوه مُعْملاً به كفيه، وهو يرسل مثل مواء الهر المهتاج. وأكثر ما يقع عدوانه على الصغار الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
وكان لهدوئه كذلك وبعده عن العنف أثر آخر في نفسي إذ كنت كثيرا ما أستشعر الأسى عليه فأتساءل: أليس لهذا الكعَّاك من أم أو أب؟ أليس له من زوج تنفض عنه غبار الوحشة؟. وكيف يستطيع العيش مع هذا الظلام الرهيب الذي يحتشد في جوف هذا الغار، ولاسيما حين يستحكم الليل؟! .