إن في عالم فكرنا المعاصر ظاهرة لا تخفى على أحد، تلك هي اضطراب المفاهيم الإسلامية لدى أغلب فئات الأمة، حتى كأنها مبتدعات الأفراد والجماعات؛ فلا تكاد هذه المفاهيم تستقل بذاتها ولا بمضمونها، ولا تكاد تأتلف في جزئياتها، ولا تلتئم في أساليبها، وهكذا هي سواء في أمور العقيدة والعبادات التي يرثها المسلم دون مناقشة ولا تمحيص، أم في أمور العلاقات فيما بين الفرد والجماعة، أم في أمور الحكم والتشريع، أم في أمور المعاملات وغير ذلك.
وأسباب ذلك كثيرة تتلخص في فوضى مناهج التربية وتضارب أفكارها ومبادئها، وهو شيء مهّد له منذ أبد، وأنفق الممهدون له جهدا ووقتا طويلا، ولم يكن ارتجالا أو خبط عشواء، وإنما هو النافذة التي فاجأ هؤلاء المتربصون منها هذه الأمة بعد أن أعيت عليهم المذاهب مدى قرون عديدة، وكانت هذه النافذة هي الثقافة والفكر والتربية ومناهجها والتعليم وأساليبه، فأجدى هذا أي جدوى بعد أن فلّ السيف وأُخرس المدفع ودحرت الجيوش.
فكل ما يتصل بالثقافة والفكر وأسباب نشرهما والحرص على إذاعتهما، والعناية بهما وما يستوجب هذا كله كانت مفاتيح بأيدي هؤلاء الناس الذين وجهوا العقول، واستمالوا القلوب حتى أذلوا الرقاب، وخلصوا إلى النفوس، وامتلكوا كل زمام دون أن يتكبدوا ما تكبده أسلافهم جيوشا وعتادا وجهودا وأموالا ثم لم يفلحوا، واتخذت هذه الجهود الماكرة صورا شتى بدأت برجال الثقافة والبعثات العلمية والمعونات الطبية، ثم المعاهد التبشيرية تناثرت هنا وهناك، وانتهت إلى صور أخرى يراها البصر ولا تدركها البصيرة.