تميز عنصر النهضة في أوربا بالنسبة للمسيحية بظاهرتين متناقضتين، ظاهرة الانكماش في الداخل وظاهرة الانطلاق في الخارج وذلك حينما انجلى الصراع المرير بين الدين والعلم أو بتعبير أدق بين رجال الدين وتيار التطور العلمي الهائل الذي بدأ في أوربا، انجلى ذلك الصراع بهزيمة مروعة لرجال الدين ووضع بذلك حد لذلك الطغيان الذي مارسه أولئك الرجال باسم الدين عبر القرون وكانوا سدا منيعا أمام كل حركة فكرية حرة تحاول إخراج الناس من حكم هذا الكابوس الرهيب الذي يفرض سلطانه باسم الله، ويعتبر كل خروج عليه خروجاً على الله، ويبطش البطشة الكبرى مستهدفا الرؤوس المفكرة والعقول الكبيرة ورواد العلم والمعرفة الذين يهددونه في وجوده وكيانه.
ولكن سنن الله الكونية لا تغالب والظلم لا يدوم ولا يستطيع أحد أن يحول بين العقل وبين استخدام حقه الطبيعي في التفكير والانطلاق، ولا يستطيع الطغيان أن يكون حاجزا أبديا أمام العلم والمعرفة والحرية لذلك سرعان ما انهارت السدود ((المقدسة)) أمام زحف التيار العلمي والتقدم الفكري وأزيحت الكنيسة ورجالها كعقبة رئيسية في طريق التطور وفقدوا بذلك كل سلطان لهم في المجتمع فأقصوا عن مراكز الحكم وطردوا من المدارس وانتزعت منهم أداة التوجيه والتربية وانزوت المسيحية في الكنائس والأديرة وسجنت هناك ولم يعد يسمح لها بأن تدس بأنفها باسم رجالها في شؤون الناس.
أمام هذا الانهزام بحث رجال الدين المسيحي عن ميدان آخر يمارسون فيه نشاطهم ويعرضون فيه بضاعتهم وقد نبذتهم أرضهم ورفضهم أهلهم وأبناؤهم.