ومن عجب أن أنادِيَك صديقا وأنت الداء الذي أعيا على الدواء، والمرض الذي عزّ فيه الشفاء، ففي كل يوم تقنص آلاف الفرائس من بني آدم، وفي كل عام تقتات مئات الآلاف من الناس.
لا أذكر ذلك اليوم الذي زرتني فيه على غير موعد، ولا أدري في أي يوم من أيام حياتي نزلت علّي ضيفا دائم الإقامة، ربما كان ذلك منذ ثلاثين عاما، غير أني لم أتبين صورتك واضحة إلا منذ عشرين.
لم أحفل بك بادئ الأمر وما كرثني قدومك، غير أنك استطعت فيما بعد أن تشد وثاقي وأن تسلك بي الطريق الذي تريد.
لم أوجه إليك أيّ دعوة، لم أدعك بلساني، وما دعوتك بقلمي، ولم تك لتخطر لي على بال، غير أن الأطباء يقولون إنك لا تزور الناس تطفلا، ولا تنزل بساحتهم دونما استئذان.
لقد عدت إلى ما غبر من حياتي أستعيده وأستذكره، وأحاول أن أرى- على بعد الشقة وطول الزمن- ما اصطبغت به تلك الحياة من ألوان العيش، وما أصابها في هذه الدنيا من مصائب، أحاول ذلك لعلي أبلغ الأسباب أسباب قدومك إليّ بلا رحيل وصحبتك إياي بلا فراق.
عشت أول حياتي التعليمية في منزل داخلي لإحدى المدارس الثانوية أقوم مع جماعة من زملائي المدرسين على تدبير شؤون الطلاب الداخلية بعد انتهاء في دوامهم المدرسي، وكان المنزل يقدم إلينا- معشر المدرسين الموكلين بالإشراف على أولئك الطلاب- طعاما فيه سخاء وفيه تنوع وفيه طيب مذاق، ولقد عشت من قبل سنينا تسعا عجافا في تقشف وكفاف أطلب العلم بعيدا عن أهلي والوطن، فكان أن أقبلت على هذا الطعام الجديد إقبالا لا يخلو من إسراف ونهم، ناسيا قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} ، وغافلا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه".