كان سرب الحمائم يغطي أحد المربعات الرملية في الفناء الجنوبي من المسجد النبوي المبارك، عندما أقبلت هذه الحمامة الغريبة ترف فوق السرب كأنها تتخير موضعا معينا لهبوطها.
كانت كل واحدة من السرب مشغولة بما أمامها من الحبوب الذهبية، تسرع في النقر، كأنها تخشى أن ينتهي المنثور من الحنطة قبل أن تملأ حوصلتها حتى الكظة، لذلك لم يكن ثمة متسع لملاحظة هذه الزائرة الساقطة عليهن من فضاء الفناء.
وجعلت هذه تتجه إلى هنا ثم هناك، وتهم بالنزول، ثم يخطر لها ما يمنعها من ذلك، فتعود إلى الرفيف مرنقة فوق السرب المشغول.. إلا أن ذلك لم يستمر سوى دقائق يسيرة حتى ضمت جناحيها وجعلت تهبط في أناة حتى احتلت الفجوة الصغيرة، التي فسحتها لها إحدى هاتيك الحمائم.
وأقبلت كل من الاثنتين على الأخرى تتمسح بها في تماس بشبه العناق، ثم جعلت المواطنة تكرم النزيلة بتقريب بعض الحبوب نحوها، فتنقرها هذه في رشاقة تنم عن السرور.. حتى إذا استنفد السرب الحبوب، فلم يبق ما يستهويه للبقاء هناك، هبّ في حركة واحدة نحو الفضاء، وكأنه يستجيب بذلك لأمر صادر من جهة لا يسع حمامةً مخالفتها.