لعل أفضل تعريف للسعادة أنها لحظات انخطاف تحلق بالنفس البشرية وراء حدود المكان والزمان، فتضع عنها آصار التراب، وتحررها من أغلال الحقد والأثرة، فلا ترى إلا الجمال، ولا تستشعر سوى الحب.
وإذا كان لهذا التعريف ظل من الحقيقة فأنا سعيد، ولكن سعادتي لا تتقيد بلمعات تبرق ثم تمحي، بل هي جلوات متصلة، بدأت منذ حطت بنا ماخرة الهواء في مطار المدينة المنورة، ثم لم تنقطع.. وليس ذلك بعجيب..إنها مدينة المصطفى التي حقق بها الله دعوة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حين أوحى إليه أن يسأله (مدخل صدق) فكانت طيبة هي المدخل الذي سأل.
والدار والإيمان مدخل الصدق..إنما هي إشارات إلهية إلى معان لا يدرك مدلولها إلا القلب الذي تفتح في جو الوحي، فهو يطل من خلال حروف القرآن على عوالم لا سبيل إلى وصفها بقلم أو لسان.
وفي كل مكان كلام عن السلام، ولكنه كلام منطوق بلغة الحرب، وادعاء مكذوب تفضحه روائح الحقد، الذي يمزق وشائج الأرحام، ويحطم وحدة الإنسانية، حتى ليستحيل الإنسان في جحيمها خنجرا يفتك، أو ثعلبا يراوغ..ولكن في هذه الأرض التي باركها الله تسترد تلك الكلمات مضمونها السليب، فإذا هي واقع يعيشه المؤمن، وطهرا روحيا لا يتسلل إليه ضغن.. فكأنه شريد انتزع من مرابع أنسه، فراح يضرب في الأرض على غير هدى، فما إن احتواه عالم المدينة حتى وجد ضالته، فاستراح بعد عناء، وسعد بعد شقاء، وأدرك في عمق معنى الحديث النبوي الصحيح "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"، ولا غرو.. فهو هنا يتفاعل مع حقائق هذا الخبر النبوي بكل وجوده، بعد أن كان منه على حدود الألفاظ، يؤمن بها دون أن يستطيع لمدلولها تحديدا..