في (طيبة الطيبة) يعيش المسلم الحق تاريخ الدعوة الإلهية في مرحلتها الثانية، مرحلة التنظيم والجهاد والبناء، يعشه حياة حارة خافقة، ترجمت فيها الكلمات المكتوبة إلى أشعة وظلال وأنسام وألحان، يحسها في كل خفقة هواء، وفي كل ذرة هباء...
هذه الروضة المطهرة بين المنبر والقبر المنور، قد طالما احتوت شخص الحبيب، ساجدا ومعلما ومبلغا.. فما أسعد المؤمن حين يضع جبهته في البقعة المباركة التي طالما شهدت سجداته...ويتنفس في الجو نفسه الذي طالما مازح نفحاته، ويمس الأرض نفسها التي طالما سعدت بخطواته!
وأية غبطة يمكنها أن تضاهي تلك التي يستشعرها المؤمن هناك، وهو يرى إلى جانبه تلك الروضة الأخرى التي شرفها الله، بأن جعلها مسكن حبيبه في حياته ومثواه في مماته.!
ثم أليس هنا قد وقف صاحبه في الغار وصديقه المفضل يعالج صعقة المسلمين يوم الكارثة الكبرى، إذ سرى في القوم نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم فزلزلت المدينة زلزالها، وذهلت العقول، وانهار الجلد، حتى أقبل عليهم يذكرهم بخبر السماء الذي صرفتهم عنه فجأة الهول!. أليس ها هنا قد سالت دماء الفاروق بيد القومية الحاقدة.. التي آثرت المجد الجنسي على الحق الرباني، فرفضت دعوة الله، ثم حاولت اطفاء شعلته، بالقضاء على الرجل الذي صنع الإسلام منه مثل العدالة الأعلى للعالمين...
أليس من هنا.. من هذا الحرم الأطهر بدأت كتائب الإسلام زحفها لاسئصال النكسة الجاهلية، التي تخبط فيها أهل الردة، فأماطت عن أبصارهم العمى، وأعادتهم إلى جنة الإسلام نادمين منيبين، بعد أن تبينوا أن الإسلام دين الأبد، ونظام اليوم والغد، لا يموت بموت أحد!..
أوليس من قلب هذا الحرم بدأت الانطلاقة الأولى بمشعل الإسلام إلى خارج حدود الجزيرة، تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتنشر أنى توجهت بذور الأمن والسلام...