إن الإسلام إذ قرر ترابط أجزاء الكون وحوادثه ترابطاً مطرداً منتظماً - أو ما يسمى في الفلسفة الحديثة النظام السببي للكون - لم يقف عنده كما وقف الماديون، بل تجاوزه إلى طرح أعظم قضية كونيه:.. من أين جاء الكون ونظامه؟.. مَن خلقه؟.. من قدر نظامه؟.. ثم الإجابة عليها بتسلسل منطقي وإلزام عقلي.
إن هذه النظرة التي لا تقف عند حدود العلم التجريبي هي استمرار وإكمال الفكر العلمي، بل إن سلسلة التفكير العلمي تبقى ناقصة وغير منطقية دون هذا التمديد للخط البياني لبحث ما وراء منطقة العلم التجريبي.
إن بعض المطلعين اطلاعاً سطحيا على الفلسفة المعاصرة ظنوا أن في هذه الخطوة ما ينافي العلم والتفكير العلمي، وإنما جاءهم الخطأ من أنهم غفلوا عن أن سلطة العلم بالمعنى الخاص لا تتناول طرح هذه المسألة، وأن كل نظرية في أصل المادة وأصل الوجود هي من قبيل الفلسفة ومن أبحاث ما وراء الطبيعة؛ ولذلك كان من باب الخلط والجهل والمغالطة القول بأن نظرية المادية الجدلية - أو أي نظرية من نوعها تحاول تعليل أصل الكون والوجود - هي (علمية) .
إن مثل هذه النظريات تبحث في فلسفة العلوم، ويتكون منها ما يسمى (بالنظريات الكبرى) ، وإن كان العلم يقدم لها معطيات هامة ومعلومات مفيدة لتقريبها من الصواب، و (لكنها تبقى على كل حال من باب الافتراض والتخمين، وطريقها التأمل الفكري لا الاختبار والتجربة.
إن الطريق الذي سلكه الإسلام - كما يتجلى لنا ذلك في القرآن - يقيم انسجاماً منطقياً معقولاً بين التفكير السببي العلمي الموضوعي والإيمان بالله خالق الكون ونظامه السببي؛ فالإيمان بالله وبقدرته لا يمنع من النظر في تعاقب الحوادث وترابطها وتعليلها وخضوعها لسنة مطردة وقانون عام.